لمْ تستطعْ الأمُّ أنْ تكسرَ بخاطرِ أطفالِها الثلاثةِ الذين عادوا من المدرسة؛ يتوسلون إليها أن تصطحبَهم إلى السينما بأحد المولات، كما يفعل بقيةُ الأهالي مع رفاقهم الآخرين.
الأطفال يعاتبون ويتوسلون: نريد أن نذهب لصالة السينما، ونحضر فيلما نروي أحداثه المشوقة لأصدقائنا في الصف، نريد أن نكون مثلهم.
في تلك اللحظة وعدتهم الأم أن تأخذهم جميعا في نهاية الشهر، وأن يختاروا الفيلم الذي يعجبهم. لم يكن الأمر سهلا في البداية، إذ يحتاج ذلك القرار لتفكير عميق، وحسابات طويلة، وترتيب لميزانية الشهر.
صديقتي أم الأطفال، ربما لم تحسبها جيدا، أو ربما لا تعرف ما آلت إليه الأسعار في كثير من الأماكن، ولا الاستغلال البشع والجشع غير المحدود الذي بات يغلف كل شيء، ولا يراعي ظروف عائلات تسعى إلى أن "ترفّه" عن أبنائها ولو قليلا، وبأسعار لا تقتل "ميزانيتها".
وأخيرا، اصطحبت الأمُّ الصغارَ إلى أحد المولات، فتراكضوا فرحين ليحجزوا دورهم ويشتروا بعض البوشار والعصير، تمهيدا للجلوس في الصالة لحضور الفيلم، والاستمتاع بأجواء انتظروها طويلا.
الصدمة الحقيقية لها، حينما علمت بأن سعر البوشار بالحجم العادي يعادل 6 دنانير، وما يقارب 3 دنانير علبة عصير صغيرة، أما تذكرة الفيلم فثمنها 7 دنانير. وبحسبة بسيطة اكتشفت أن هذه الزيارة ستكلفها 64 دينارا.
باغتها ذلك الصوتُ الصامتُ، بأن تعودَ أدراجها مع الأبناء إلى المنزل، ترددتْ كثيرا، لكنها في الوقت ذاته لا تريد أن تحرمهم هذا اليوم من شيء تمنوه وانتظروه طويلا. دفعت المبلغ الذي كان في حوزتها، بينما عقلها لا يتوقف عن الحساب، ودخلت هي وصغارها لحضور الفيلم الذي لا تتذكر منه شيئا، فعقلها كان مشغولا بحسابات أخرى؛ كيف باستطاعتها إدارة مصاريف هذا الشهر؟
ربما يقول البعض إن ارتياد السينما مسألةٌ كماليةٌ، وليست أساسيةً، رغم أهميتها بتشكيل وعي الطفل وبناء جزء من ثقافته، مثلها مثل المسرح وباقي أنواع الفنون التي تنمّي عقول الأطفال وتوسع من مداركهم. لكن ذلك الأمر أصبح مقتصرا على فئة معينة، وكأنّ هؤلاء لا مكان لهم هنا.
سنتجاوز هذه المسألة قليلا، وسنذهب إلى أمور أخرى نحسبها من أساسيات حياتنا.
هل يصدق أحد أن قرار تناول وجبة شعبية مكونة من صحن حمص وفول و"قدسية" وفلافل، وصحن "مقالي"، سيكلف عائلة صغيرة مبلغ 25 دينارا؟
تلك الوجبة في أحد المطاعم الشعبية كانت نوعا من أنواع الترفيه البسيط عن النفس للعائلة ككل، لكنها أصبحت عبئا آخر يضاف على فاتورة الأسرة.
لم يعد شيء كما كان، ارتفاع الأسعار يحرق بطريقه كل أحلام الأُسر البسيطة، وكأنه لا يحق لأحد أن يتذوق ولو قليلا طعم الحياة بعد أيام طويلة من العمل والجهد المتواصل.
مصاريف لا تنتهي للأسر، بدءا بأقساط المدارس، مرورا بمستلزمات البيت، وفواتير الكهرباء والمياه، والتنقل، المأكل والمشرب والملبس، في المنزل والشارع، وكل ما يتبع ذلك من تفاصيل يومية تحسب بالورقة والقلم. وحينما يفكر الشخص، في لحظة، أن ينسى كل ذلك ويرفّه عن نفسه يجد كلَّ الطرق مسدودةً أمامَهُ.
فوضى ارتفاع الأسعار وغياب الرقابة واستغلال الطامعين، يضع المواطن بين فكي كماشة، فك المداخيل المحدودة وتوقف نموها، وفك المتطلبات المعيشية التي باتت مرهقة للأمهات والآباء، وتضعهم في أزمة نفسية ومعركة مستمرة لا تتوقف من أجل توفير حياة كريمة لهم ولأبنائهم.
فلافل وسينما ومقالٍ؛ ثلاثية لا تعكس الواقع الحقيقي الذي تعيشه الأسرة الأردنية، لكنها تشي بكثير من العيوب والاختلالات والتحديات التي تواجه الأسرة اليوم، وكل يوم.
هذا الارتفاع المستمر يرهق الطبقة الوسطى، ويستنزفُها، ويتسببُ بغياب القنوات الحقيقية التي تسهم ببناء المجتمع ووعيه.
