مفارقات تعليمية.. وخسارات!

واحدة من المفارقات الصارخة التي أفرزتها السياسات الحكومية القاضية بإيقاف التعليم الوجاهي، واستبداله بالتعليم عن بعد، وإيقاف عمل المراكز الثقافية، هي اعتماد الدروس الخصوصية التي تفرغ لها مئات المعلمين. نعلم جميعا أن الدروس الخصوصية كانت ظاهرة تعيش معنا منذ عقود، لكن العام الأخير وما رافقه من تعطيل الغرف الصفية، زاد من هذه الظاهرة، وأيضاً رفع من أسعار تلك الدروس، حتى أصبحت ثقلا كبيراً ترزح تحت وطأته العائلات المثقلة في الأصل بالأعباء الكثيرة. من منطلق القناعة بضعف التعليم الحكومي، تلجأ كثير من العائلات إلى محاولة تعويض أبنائها بالدروس الخصوصية، التي لا يكون الهدف منها بناء المعرفة، بقدر ما هو التكهن بطبيعة الأسئلة ونوعيتها، على اعتبار أن المدرسين الخاصين يطرحون أنفسهم كخبراء في هذا المجال، وهم كذلك في واقع الأمر، فهم يستطيعون توقع نسبة عالية من الأسئلة، وغني عن القول إن جميع طلبتنا يبحثون عن علامات، كون نظامنا التعليمي قائما على قياس الحفظ، وليس الفهم والمعرفة والاستنباط! لكن المفارقة لا تتوقف عند هذا الحد، ففي الوقت الذي أوقفت فيه الوزارة التعليم الوجاهي بدعوى منع التجمعات الكبيرة، ومحاولة السيطرة على انتشار وباء كورونا، يتحدث شهود وعائلات من عشرات المعلمين الذين استأجروا شققا في بعض أحياء المدن الأردنية، خصوصا العاصمة عمان، أو يستضيفون حلقات الدروس في بيوتهم، ويقومون باستقبال الطلبة فيها بأعداد كبيرة، وبلا ضوابط سلامة صحية، ما يفتح الباب على تحويلها إلى بؤر انتشار للوباء! الأمر الآخر، هو الأسعار الفلكية التي يتحدث عنها بعضهم، إذ يقولون إن ساعة المواد العلمية، مثلا، تصل أحيانا إلى أكثر من ثلاثين دينارا، وهو مبلغ كبير بكل المقاييس، خصوصا أنه نادرا ما يتلقى طالب وحده تلك الحصة، فغالبا ما يتم التدريس عبر مجموعات كبيرة العدد. صحيح أننا لا نستطيع مطالبة وزارة التربية بمراقبة هذه «التجارة»، أو تقنينها، أو وضع حد أعلى لسعر الساعة التعليمية، ولا أن تراقب مثل تلك الشقق التي تتم فيها، فهي في النهاية «تجارة مشروعة» للمعلمين، وملجأ وحيد اليوم للطلبة الذين يعانون من عثرات التعليم عن بعد، خصوصا طلبة التوجيهي الذين يقتربون من نقطة تحديد المصير وهم متروكون ليقاتلوا وحيدين. لكن، ليس طلبة التوجيهي هم وحدهم من يعتمدون الدروس الخصوصية، فهناك أيضاً طلبة الصفوف الثلاثة الأولى، والذين بات أهاليهم يخشون عليهم من الأمية القرائية والكتابية، لذلك لجأت عائلات إلى معلمي الصف، أو المجال، متفقين معهم على «راتب» معين شهريا، لكي لا يتعرض أبناؤهم إلى ضعف التحصيل الأكاديمي. قلنا منذ البداية بأننا لن نتهم التعليم عن بعد بجريرة ظاهرة الدروس الخصوصية، فهي موجودة سابقاً، لكن هذا النمط التعليمي المشوه، جذّر من هذه الظاهرة، وجعل «تجارتها» مزدهرة لدى المعلمين، الذين هم أيضا يقعون في دائرة الضحايا بسبب سياسات التهميش الطويلة التي تعرضوا لها، والواقع المعيشي الصعب الذي انزلقوا إليه، بعدما كانوا يمثلون رتبة عالية في الطبقة الوسطى المنتجة. واقع مشوه، إذن، ما نعيشه اليوم، يدفع ثمنه الطالب بخسارات تعليمية تتراكم يوماً، ويدفع ثمنه المعلمون جراء السياسات التهميشية، والأمر الأكثر خطورة هو أن نظامنا التعليمي بأكمله، ومستقبلنا أصبح في مهب الريح بسبب ما يتم التأسيس له من خسارات كبيرة، نتيجة سوف نواجهها، لا محالة، خلال أقل من عقد، في الجيل المقبل من المتعلمين.اضافة اعلان