حدَّثونا عن مبدعين، عرباً، تمكنوا من اختراع شيء؛ بندقية صغيرة مثلاً، أو قطعة سلاح أثقل. لكنهم عندما عرضوا اختراعاتهم على ذوي الأمر، متوقعين مجد ميخائيل كلاشينكوف، وقعوا في "السين والجيم" لأنهم مارسوا نشاطاً "يهدد الأمن". وقد تكون هذه الحكايات صحيحة –وهو ما ترجحه غرابة الأطوار في المنطقة- وقد لا تكون. لكن الأكيد هو أن ثمة تجاهلاً مستحكماً لمعظم ما تنتجه فئة فذة من المخترعين والمبدعين العرب في كل مجال –عسكرياً كان أم مدنياً. مادياً أم فكرياً.
نسمع هنا أيضاً مخترعين أردنيين أفذاذاً يشتكون من هذا الإهمال. ويعرض هؤلاء الأردنيون حيثما يستضيفهم الإعلام أعمالاً مدهشة، سعوا -بجهودهم الذاتية- إلى تسجيل براءات اختراعها في الخارج. مثلاً، صنع أردني طائرة صغيرة فريدة. وصنع آخر مواد عزل للبناء، بالغة الكفاءة وقليلة الكلفة وصديقة للبيئة. وقال أحدهم أنه عرض مشروعاً لتخضير الصحراء باستخدام طريقة مبتكرة لـ"صيد الماء" -معالجة التربة بحيث تحتفظ بمياه الأمطار وتنبتُ الزروع. لكن معظم هؤلاء المخترعين لم يجدوا الدعم لما يصنعون، كما يقولون. وما ذكرته من أمثلة هو غيض من فيض حقاً.
إذا كان هؤلاء المبدعون يسجلون براءات باختراعاتهم، فإنها فريدة من نوعها حتماً وجديرة. وفي أي مكان في العالَم، حتى لو ضج بالموارد الطبيعية، ستكون الاختراعات والأفكار الخلاقة هي التي تؤسس لنهضة صناعية وتجارية. ولذلك، لا تكتفي الدول العامِلة بمخترعيها ومبدعيها المحليين، وإنما "تشتري" مثل هؤلاء من أي مكان وبلا تفكير في الحساب –بتجنيسهم وفتح المختبرات لهم والإنفاق على مشاريعهم. أما إذا كنتَ فقيراً لأي شيء سوى الإنسان، فحريّ بك أن لا تضيع مثقال ذرة مما لدى مواطنيك من إمكانيات.
المخترعون، والمفكرون، والمبدعون في كل مجال يصبحون معدنك النفيس الذي لا يُقدر بثمن، والمنطوي على إمكانيتك الوحيدة لصناعة ثروة وطنية وسبيل حياة. وكلنا يستشهد باليابان، التي ما لها استثمار غير الاختراع والابتكار، وتحويل الأفكار إلى سلع. وتوصف صناعة البرمجيات والشرائح الحاسوبية لدى الكيان في فلسطين المحتلة بأنها "نفط إسرائيل". ونعرف أيضاً عما تفعله صناعة تكنولوجيا المعلومات للهند. وليست رؤوس الأموال هذه من المواد الأولية الطبيعية التي يمكنك أن تستوردها بنقودك، وإنما هي عقول حيّة وُهِبت الخيال والتنظيم والطموح وقدرة تحويل التراب إلى ذهب.
إنك، إذا كنتَ مسؤولاً وصانع سياسات في بلد بلا معادن ثمينة يمكن أن تستخرجها وتشتغل في بيعها، فما الذي يتبقى لك لتشتغل به، سيدي المسؤول، سوى التنقيب الدؤوب عن أي وكل ذرة إبداعٍ عند مواطنيكَ، وأن تتعهدها بالرعاية حتى تُثمر؟ وكيفَ لا تتلقف كل فكرة لتصنيع شيء تستطيع أن تشتغل بعد ذلك في بيعه للتحول من متقاضي راتب من اقتصاد يئن إلى مدير فخور في منظومة تنتج وتربح؟ وأين يمكِن أن تنفقِ جهدك ونقودك –بصفتك الاعتبارية كمسؤول- وتتوقع العائد سوى في تعليم الأبناء وتعظيم قدراتهم وفتح عقولهم وتلقُّف كل بادرة إبداع ينمّون عنها، بشغف عطشان، علّها تتسع الآفاق الضيقة؟
كنا نتحدث عن شيء يعتبره البعض "نظرية مؤامرة" ويرى فيه آخرون واقعاً لا لبس فيه: أنّ هناك قوى صناعية تقيم وجودها على إحباط محاولات العالَم المستهلِك ليصبح مُنتجاً أو مُنافساً؛ وأن قوى الهيمنة تستمد هيمنتها من إبقاء الآخرين سلبيين مُعتمِدين، لتتحكم في قراراتهم وتوظفهم في تنفيذ سياساتها وخدمة مصالحها. وإذا كان هذا صحيحاً، فالمسألة صراعٌ بين ضغط ومقاومة –إذا أريدت المقاومة. ولكي تُقاوِم يجب أن تبدع وتناور وتحتال للخروج لتوسيع حيزك وتمديد عضلاتك المتيبسة. والخيارُ الوحيد أمام الأمم الصغيرة هو أن تعكِف على التعدين في نفسها، وأينَ يمكن أن تُشمِّس أركانها وتبحث في داخلها عن أي ضوء.
إذا تفضّل مواطنكَ باختراع يمكن تحويله إلى سلعة تُصنَّع وتباع وتجلب المال، فلمَ لا تستثمر وتجد الممولين وتساعد في التأسيس والتسويق؟ أو بفكرة قابلة للتطبيق لتحسين خِدمة، فلِمَ لا تأخذها على محمل الجد وتجربها؟ أو خطّةٍ نظرية لتطوير قطاع أو دائرةٍ، فكيفَ لا تدرسها وترى آفاق تفعيلها؟ أو منتج فكري وفنيّ راقٍ وفريد، فلِم لا تُزيّن به بلدك وتضيف إلى حضارتك بدل أن تفقِرها؟
ربما تعيش الأمم بخلاف ذلك، ويسير ناسها في الأسواق ويدفعون الضرائب -وإنما كأصداف فارِغةٍ، معلقة في الهواء، ومُغلقةٍ على خواء.