هشاشة الطبقات العاملة

في الماضي؛ واجهت الرأسمالية؛ المالية والاجتماعية، سؤال الاستمرارية. جل الانتقادات اتجهت نحو آليات عملها، وأيضا نحو العدالة المفقودة. اليوم، لم يعد سؤال العدالة مطروحا في الأصل، بعد أن بات العالم محكوما لليبرالية الجدية، أو الليبرالية المتوحشة. في الماضي، سيطرت الدولة على عملية الإنتاج وتقسيم الفائض. لكن في العقدين الأخيرين "ازدهرت" آليات الخصخصة التي وجهت الدول إلى التخلي عن جزء من القطاع العام لمصلحة القطاع الخاص، أو التخلي عن إدارته. ومع الخصخصة، بدأت نظرية الليبرالية الجديدة بالتشكل تدريجيا، والتي تعتمد أساسا بتخلي الدولة عن إدارة الاقتصاد، وتفويض القطاع الخاص بهذا الأمر، إضافة إلى اعتمادها مبدأ تقليص القطاع العام، والذي ينظر إليه على أنه يعطل عمليات النمو والتنمية والازدهار. ومع العولمة، والثورة الرقمية والتكنولوجية الحديثة، زادت سيطرة الشركات على الإنتاج، بينما فقدت الدولة قدرتها على التدخل في هذه العملية، وظهرت الشركات العملاقة العابرة للحدود والقارات، كما ظهر مفهوم "الشركات البليونية" بحسب موجوداتها السوقية، وصولا إلى اعتبار بعض تلك الشركات بمثابة الدولة. هذا الأمر جعل الدولة تتخلى، طواعية، عن دورها في رعاية المجتمع، وإقامة التوازن بين طبقاته، ومن الطبيعي في حالة كهذه أن يزداد الأغنياء ثراء، وأن يزداد الفقراء فقرا. حتى اليوم، ما تزال المدن تزداد اتساعا، وما يزال الريف يأخذ بالتلاشي، وتموت فيه أنماط إنتاجه المميزة، ويتحول العالم تدريجيا لأن يصبح واحدا من أشكال المدينة المشوهة التي تؤسس لمنظور مختلف عما عرفته الإنسانية عن مفهوم المدينة، والذي ارتبط، وبحسب الأدبيات الرأسمالية والاشتراكية، بتميز الطبقة الوسطى، وبنمط الإنتاج في الأساس، إضافة إلى ارتباطه بأسس اجتماعية تتحدد فيها أنماط العلاقات بين الطبقات. وصل العالم إلى "تقديس" الاستثمار بما يعنيه من منشآت ورأسمال، مقابل تهميش عوامل الإنتاج الأخرى، خصوصا العمل والعامل. وبهذا لم يعد إنتاج الوظائف أولوية في عمل رأس المال، بل تخفيض كلف الإنتاج، ما زاد من مأزق كثير من الدول التي واجهت نسبا غير مسبوقة من البطالة. وكما واجه العالم إحلال الآلة مكان اليد العاملة في السابق، نواجه اليوم إحلال الذكاء الاصطناعي مكان الإنسان. في حلول العام 2030، كثير من القطاعات ستكتفي بمراقبين أو ميسرين أو غير ذلك من مفاهيم الوظائف الإشرافية التي لا تحتاج إلى أعداد كبيرة، ما يعني مزيدا من التضخم في أرقام البطالة حول العالم. الدولة، بما هي شركة كبرى، كانت تشرف يوما على الإنتاج وتنظم عوامله المتعددة، تواجه اليوم فشلا مزدوجا، في تنظيم الإنتاج، وأيضا، في توزيع القيمة الفائضة بعدالة، بعدما تخلت، طائعة أو مجبرة، عن أصولها. تخلي الدولة، كذلك، عن دور الرعاية، زاد من هشاشة المجتمع، خصوصا الطبقات العاملة فيه. ومع وصول عدد سكان العالم إلى 8.5 مليار نسمة في 2030، فإن الطبقة العاملة سوف تزداد هشاشتها بسبب أنماط الإنتاج الحديثة التي لا تعتمد في غالبيتها على اليد العاملة، وتقليص الحاجة إلى العمال، وأيضا اختفاء كثير من الوظائف التقليدية إلى الحد الأدنى بفعل التكنولوجيا، كل هذا سيرفع أرقام البطالة والجوع. المعادلة التي تحكم الإنتاج وأنماطه في الوقت الحاضر، ترشح الطبقة العاملة في الوظائف الدنيا والتقليدية إلى مزيد من البؤس والفقر والجوع. حتى لو تغير النظام العالمي السياسي الذي يربط الدول بعضها ببعض، فإن هذا الوضع لا يبدو أنه ستيغير قريبا، خصوصا أن رأس المال حدد أهدافه وطرق عمله، وأن الشركات الكبرى باتت بمثابة الاستعمار الحديث الذي لا يحتاج إلى جنود وأسلحة، وهي من باتت تتحكم بالدول وسياساتها النقدية والاقتصادية.اضافة اعلان