د. محمود أبو فروة الرجبي
لا أحد ينكر خطورة منصات التواصل الاجتماعي التي أتاحت لكل إنسان مهما كانت خلفيته الثقافية والاجتماعية والتعليمية فرصة بث ونشر ما يريد ووقتما يريد دون وجود أي رقابة، أو حارس بوابة يمنع، أو يوعي، أو يفلتر ما يقال، وهذا وضع الجميع، مرسل الـمحتوى، والـمجتمع، والدول في خطر لا أحد يعرف مداه للآن، ويكفي الإشارة إلى وجود مشكلات قانونية قد تؤدي للسجن بسبب منشور، أو إعادة نشر أو بث محتوى معين، خلافًا لتحول بعض الـمنشورات لقنابل موقوتة يمكن أن تنفجر بالمجتمع والناس في أي فترة.
الإشكالية الكبرى في منصات التواصل الاجتماعي أنها أعطت للناس فرصة لفعل شيء لم يتم تدريبهم على كيفية استخدامه، وهنا تكمن الخطورة، وتحالف هذا الأمر مع التربية الأحادية التي تطبع الحياة في العالم العربي، والتي تجعل الإنسان لا يعطي رأيًا متوازنًا بما يدور حوله وفقًا للمعطيات، وأصبحت مشكلة الشخص الغوغائي لا تقتصر على محيطه وأقربائه وجيرانه، بل تعولمت – أصبحت عالمية-، وبذلك نستطيع القول إن هذه الـمنصات أعطت لكل شخص جيد فرصة نشر محتواه، وفي الـمقابل وفرت للمصابين بالحول الفكري، وأصحاب الأجندة المتطرفة، والتفكير الأعوج فرصة أكبر لنشر محتوى غريب يجد صدى وتفاعلا غير مسبوق.
وبزغ في عالم النجومية مصطلح «المؤثرين» وهم مجموعة من الأشخاص انتشروا من خلال منصات التواصل الاجتماعي، وتمكنوا من بناء جمهور عريض يتأثر بهم، ويتابعهم بشغف، ولو تتبعنا هؤلاء المؤثرين قد لا نجد بينهم إلا عددا قليلا جدا ممن يمكن تصنيف محتواهم بالمفيد، ولن أنتقد هنا الـمحتوى السطحي والتافه والمنزوع الدسم – مع اعترافي بخطورته- الصادر عن بعض منهم، ولكن هناك نوع آخر يحث على الكراهية، والتطرف والعنف، ويشجع على الإساءات الجنسية، والعرقية، ويخدش الوحدة الوطنية بشكل قد يشعل فتيل الفتنة – لا قدر الله.
ذلك كله يؤدي إلى ضرورة وجود تربية إعلامية فاعلة، وعندما أتحدث عن ذلك أضع يدي على قلبي، ولنكن صرحاء، فوجود هذه التربية لا يكفي للمدارس، بل للناس كلهم، والأمر لم يعد مجرد ترف، بل إن الأمر أخطر مما نتصور، وله تبعات أكبر مما يتوقع الجميع.
لن نقلل من جهد أي جهة في الأردن ستتحمل مسؤولية التربية الإعلامية، وعلى رأسها وزارة التربية والتعليم، ولكنني أعتقد أن التعامل مع موضوع – التربية الإعلامية- كأي مادة دراسية قد لا يأتي بالنتائج التي نريدها، ولو أخذنا مثلًا موضوع اللغة العربية والإنجليزية، نلاحظ أن تدريس هاتين المادتين لسنوات طويلة في مدارسنا لا يؤدي إلى مخرجات مرضية عند عدد لا بأس به من الناس، وإذا طبقنا الفكرة نفسها على التربية الإعلامية، فلن تتحمل بلدنا الأردن، ولا وطننا العربي الكبير ترف وجود ولو عشرة بالمائة من الناس لا يستفيدون من التربية الإعلامية، لأن وجود عدد قليل من المؤثرين غير المنضبطين أخلاقيًا، وعلمياً، ومضمونيًا يعني كارثة بكل ما في الكلمة من معنى.
لذلك يجب التعامل مع التربية الإعلامية بشكل مختلف تعليميًا، وفي البداية لا بد من تعريف هذه التربية، فرغم وجود تعريفات كثيرة لها لكنني سأستعمل تعريفي الخاص، وهو أنها: عملية يتم من خلالها تدريب وتعليم الناس على فهم الإعلام، ومنصات التواصل الاجتماعي، وآليات عملها، وتدريبهم على نقد الـمحتوى الإعلامي، والتمييز فيه ما هو صحيح، وكاذب، وتزويدهم بالمهارات اللازمة للكشف عن التضليل، إضافة إلى تدريبهم على مهارات كتابة محتوى إيجابي مؤثر بعيد عن الغوغائية، والتطرف، والسطحية.
وبذلك يجب أن يتم التعامل مع كل طالب في الـمدرسة، أو شخص على أنه إعلامي، وصانع محتوى، ومشروع مؤثر، وإذا كنا نطالب بأن يتم تدريس التربية الإعلامية بشكل مختلف كي لا تصبح مثل أي مادة تحفظ وتنسى، فهذا يتطلب أيضا تغييرا في طريقة تعليم الـمواد الدراسية كاملة، للخروج من عقلية التلقين والحفظ القاتلة التي تزيد الطين بلة، وتجعل صناع الـمحتوى الافتراضيين أكثر تقبلاً للمعلومات المضللة، ولا تزرع فيهم الشخصية العادلة القارئة على قراءة الواقع بذكاء، وذلك يجعلهم يصنعون محتوى هابطًا غير إيجابي في غالب الأحوال.
لا بد لنا جميعًا أن ندعم جهود وزارة التربية والتعليم في موضوعة التربية الإعلامية، وأن نكون جنوداً في هذه المعركة، وأن ندعوها إلى التعامل معها بطريقة مختلفة عن الـمواد التدريسية، وأن يصار إلى اختيار لجنة محايدة من الوزارة وخارجها لاختيار من يدرس هذه الـمادة وفق نظام خاص، وأن نعتبر هذه الـمادة «فوق العادة» وإلا فإنها ستتحول مع الزمن لتصبح مثل أي مادة، يحفظها الطالب، ثم ينساها بعد الامتحان بربع ساعة، وقد لا تغير في سلوكه قيد أنملة.
ما يدعونا إلى التعامل الخاص مع هذه الـمادة أنها جاءت لحل مشكلة مستعصية، وأنها تأتي في سياق الإجبار، وليس الخيار، فمع الإشكاليات التي تسببها منصات التواصل الاجتماعي، ووجود جزء من المؤثرين يغامرون بالوحدة الوطنية، وبمعلومات الناس، وسلمهم الاجتماعي، وثقافتهم، فلا بد لنا أن نعتبرها مادة طوارئ بكل ما تعني الكلمة من معنى.
لا خير بالتربية الإعلامية إذا لم تؤثر على الطلبة والناس بشكل يتغير معه الـمحتوى المبثوت والـمنشور في منصات التواصل الاجتماعي إيجابيًا، أما كيف يمكن تشجيع الناس الأكبر سنًا على أخذ دورات شبه اجبارية في التربية الإعلامية فلهذا مقال آخر في موضع مختلف.
التربية الإعلامية طوق نجاة نأمل ألا يتحول مع التطبيق إلى مجرد مادة لا تقدم ولا تؤخر، ولا أعتقد أن أحدًا في بلدنا يريد ذلك.
اضافة اعلان