"مدن ترانزيت": ضياع في متاهات الذات المسافرة

 

فريهان الحسن

  دبي- بدايات تعكس مدى الغربة الذاتية التي يعانيها الإنسان، ونهايات تشرع أبوابها على كثير من الاحتمالات والتوقعات، وحلم يضيع في محاولة لاسترجاع الذاكرة المليئة بصور الماضي الجميل. وبين مفردات العلاقة الحقيقية مع المكان والانسان، وأخرى جديدة لا تعبر عن فطرة العقل البشري المبنية على الانسجام بين الماضي والحاضر، يأتي الاغتراب، العودة إلى الوطن، المتاهة الداخلية في الذات ومعها، والكثير من صعوبات التعاطي مع تحولات النفس والانسان، لتقود إلى حياة أشبه ما تكون بحياة مسافر الترانزيت. حاضر تُرك قسرا أو طوعا، وماض أشبه ما يكون بالعودة إلى اللامكان والترانزيت في داخل الانسان، هذا ما يلخصه الفيلم الأردني الروائي الطويل "مدن ترانزيت"، الذي عرض أول من أمس في مدينة الجميرا ضمن فعاليات مهرجان دبي السينمائي الدولي. الفيلم، الذي خرج إلى النور بدعم من الهيئة الملكية الأردنية للأفلام، وأخرجه محمد الحشكي، وشارك في بطولته صبا مبارك ومحمد القباني وشفيقة الطل، تناولت حكايته العودة بمفهومها المطلق، سواء أكانت عودة إلى المكان، الوطن، الذاكرة، أو اللحظة، ويجسد الخيبات التي يشعر بها كل مواطن يحلم بالرجوع إلى بلده. يبدأ الفيلم بمشهد داخل قاعة القادمين في المطار، حيث قررت ليلى، التي تجسد دورها الفنانة صبا مبارك، العودة إلى مسقط رأسها عمان بعد 14 عاما من الاغتراب في أميركا، ولحين ظهور المشاهد التالية من الفيلم، يعيش المتفرج لحظات من التأمل تسكنه داخل روح (ليلى)، التي تتأمل بصمت غريب مخبر المكان ومظهره. مواجهات تعبر عن واقع المغترب العائد إلى وطنه، يقودها الفيلم ليبرز مشاهد الحياة القاسية التي تثير العديد من التساؤلات حول واقع أليم يعيشه الإنسان مع ذاته كما يعيشه مع المتغيرات الحياتية، ليصبح غير قادر على الانسجام والاندماج مع محيطه وعوالمه الجديدة، بينما الذاكرة تبقى مسيطرة على الدوام. وبينما يضع الفيلم اللوم على طبيعة الحياة ومتغيراتها، ليطلق عليها ألقابا عديدة من خلال ذهنية المشاهد من دون إقحام عمليات التلقين، تقود التفاصيل إلى إنصاف الحياة على حساب الذات البشرية في دواخل بطلة الفيلم، حيث تعاني (ليلى) من تقلبات عديدة وضعتها في مكان بعيد عن الانسجام مع حياتها الجديدة. الفيلم المرشح لجوائز المهر للأفلام الروائية الطويلة في المهرجان؛ يخاطب المشاهد من خلال لغة تظهر معقدة في البداية، لكنها سرعان ما تصبح سهلة لاعتمادها على مفردات الصمت والسكون المؤلم، والذي يثير كل مشاهد بحسب حالته الخاصة، فقد يظهر المشهد مفتوحا على التوقعات، في حين أنه لا يحتمل إلا معنى "الوجع" المطلق. الغربة هي العنوان الرئيسي لفيلم "مدن ترانزيت" وتظهر في أشكال متعددة؛ غربة الوطن والنفس والأهل والقلب والروح والعقل، لكنها مجتمعة تمتزج لتكوّن مشاهد تمضي بالمتفرج إلى فهم ماهية شخصية (ليلى) المركبة، التي أبدعت صبا مبارك في تجسيدها. المخرج محمد الحشكي بذل جهدا كبيرا في التركيز على إظهار عيوب البطلة في نظر المجتمع، وتمردها الدائم على السائد والمألوف، ومحاربتها للجميع كي تثبت أنها على حق وأنها تستطيع الانسجام مع المحيط وفق نظرياتها الخاصة وليس بحسب ما يملى عليها. واستطاعت ليلى الوصول بالمشاهد إلى لحظات من التساؤل والحيرة حول شخصيتها المركبة التي تقوم على تناقضات كثيرة لا يستطيع المجتمع استيعابها، لتدخل في نهاية المطاف في صراع مع المحيط. الأب، الذي جسد دوره الفنان محمد القباني، تمكن من التعبير عن شخصيته من خلال مفردات قليلة لكنها عميقة للغاية، ولفت الأنظار إلى قدرته على محاكاة النص بدقة متناهية وتعبيرات حقيقية مفهومة ولا تحتاج الى تفسير شخصيته الغاضبة من كل شيء. ويقف نص الفيلم موقفا غير مفهوم في كثير من الأحيان من طبيعة علاقة الأب بابنته العائدة بعد سنوات طويلة من الغربة ليستقبلها ببرود شديد، ولا يعير أي اهتمام لحاضرها أو مستقبلها بعد أن عادت مطلقة ولديها رغبة في بناء ذاتها، ليعكس انكساراته السياسية عليها، ويزيد من غربتها. الفيلم، الذي بدأ مشروعه كنص لفيلم قصير لا يتعدى طوله 20 دقيقة وتطور ليصبح فيلما روائيا طويلا مدته 70 دقيقة؛ قدم تجربة سينمائية تبشر بمستقبل يبعث على التفاؤل بصناعة سينمائية أردنية تستطيع أن تنافس عربيا من خلال النص والشخوص والموسيقى التصويرية والتقنيات المتبعة في العرض. ورغم الكلفة الإنتاجية المتواضعة ومدة التصوير التي لم تتجاوز ثمانية أيام، إلا أن النص تمكن من السيطرة على تفاصيل أبرزت جماليات الفيلم المتعددة.اضافة اعلان