" باريس عندما تتعرى" إصدار جديد لايتل عدنان يجمع بين الشعر والحزن والمدينة الرائعة

 

بيروت - ترسم ايتل عدنان في كتابها " باريس عندما تتعرى" عالما نسيجه الشعر والقصة والحزن والمطر والاحلام بشكل تتداخل فيه المشاعر والواقع لتشكل حالة واحدة تكاد تحمل الى القارئ رائحة القهوة في مقاهي باريس الرائعة وحرارة الانفاس وأصوات نبض القلوب في بكائها وفي حالاتها المختلفة.

اضافة اعلان

وفوق ذلك كله تطل ايتل من خلال باريس " وعبر حالات نفسية ووجدانية متنوعة على العالم.. مشكلات انسانية واجتماعية وسياسية واقتصادية.. على الجميل والقبيح مغلفة كل ذلك بغمام نفسي شعوري شفاف يصعب فيه ان تفصل بين الشعر والقصة والتحليل والتعليق السياسي كما يصعب الافلات من قبضة تلك المتعة الرائعة التي تنبعث من كل مجالات النص الذي كتبته".

ايتل عدنان -كما يقول الاديب السوري فايز ملص في ترجمة لبعض قصائدها نشرت في صحيفة "جهة الشعر" الالكترونية- متحدرة من اصول تركية وعربية شامية" ومترحلة بلا استراحة بين بيروت وباريس ولوس انجليس. تحمل ايتل في عروقها نسغ الثقافات المتوسطية والاميركية والاوروبية. ومن هذا النسغ الهجين ومن علاقة كيمائية صاخبة بالتراث العربي الاسلامي في الشعر كما في المعمار وفي الذائقة البصرية كما في السياسة شيدت هذه الشاعرة المتفردة نشيدها المجبول بعرق التجربة ودموعها والشاهق بصروح الامال والخيبات. شيدته بعيدا عن كل المدارس الشعرية المنتشرة في ساحة القصيدة. اطلقت صوتها خفيضا عنيدا وعذبا كلحظات الرمق الاخير لتدافع عما بقي من الحياة والجمال".

صدر الكتاب عن "دار الساقي" في بيروت في 143 صفحة متوسطة القطع توزعت على فصول حمل كل منها عنوان الكتاب الرئيسي اي "باريس عندما تتعرى" ليصبح الكتاب كله اقرب الى حالة واحدة شاملة تطل منها وجوه عديدة او تطل هي عبر تلك الوجوه.

اما الكتاب الذي كتب اصلا بالانجليزية فقد نقلته الى العربية مي مظفر بشكل رائع يجعل القارئ ينسى ان هناك ترجمة بل يكاد احيانا -على رغم عدم قراءته الاصل الانجليزي- يتصور ان هناك شراكة في العمل بين الكاتبة والمترجمة وكأنهما واحد.

تبدأ ايتل فصلها الاول فنكاد نشعر بأننا امام فيلم سينمائي هادئ ينبض بالشعر وفيه من اجواء عالم بودلير. تقول "حين يهطل المطر في باريس تفتح اوروبا مظلاتها. سريعا ترمى صحف الصباح في السلال. القهوة تزداد كثافة مع القشدة مما يجعلك تشتاق الى فيينا.. وثمة رائحة خبز مطلي بالزبدة تنبعث من المعاطف السميكة للرجال الذاهبين مسرعين الى مكاتبهم. في المترو ظلام وفوضى. في صفوف الركاب شابات كثيرات بعضهن لم يقرأن قط" قصيدة بودلير الذي قالت انه احب لندن والتي تعطى احيانا عناوين منها " كآبة باريس ".

تضيف "تشع المصابيح الكهربائية في الحافلات فالصباح ما زال يشبه مساء الامس مع الزبائن انفسهم الذين ما زالوا يتساءلون طوال سنوات اكان عليهم ان يبتسم بعضهم لبعض ".

تضيف " اولئك الذين يذهبون بالسيارات الى اعمالهم يغسلون زجاج نوافذهم بعناية تامة او يمسحونها بأكمامهم مسحا سريعا. من الصعب جدا ايجاد موقف للسيارة حين يكون الطقس تعسا وذلك هو الحال في معظم اوقات السنة. بعض المواطنين الشجعان يصحبون كلابهم في جولة صباحية. يبتل كل من الناس والحيوانات غير ان هناك واجبات يجب القيام بها... جميع اخبار الصباح تدور على اوروبا والوحدة الاوروبية هي دواء كل شيء...وفي الوقت الحالي حاول ان تجد لك مكانا صغيرا يقدم نبيذا جيدا من نوع "بوردو" بسعر معتدل يباع بوصفه نبيذا بيتيا لان المطر يجفف جيبك مثلما يجفف حنجرتك.. بعد ذلك انظر الى باريس وتخيلها ان لم تكن عيناك قادرتين على ايجادها وانظر اي مدينة صلبة متماسكة هي وأي تناغم موسيقي حاد في تكوينها واي قصة ملحمية في احجارها واي روح متلاشية في مطرها".

في فصل آخر تصور حالات وامزجة واحزانا منها حديثها عن صديقة لها وقد دعتها الى الغداء " كان مزاج صديقتي مكبوتا. تناولت القليل من الطعام وبقي نبيذها في الكاس فتسربت كآبتها الى الغرفة. بدا لي ان اعماقها كانت معتمة. لم يمض اولادها معها عيد الميلاد ولا ليلة راس السنة. كانت لديهم ارتباطات شتى في بلدان شتى لذلك امضت ايام اعيادها مع ذكرى ابنها الذي انتحر قبل وقت غير طويل. كان في عينيها المائلتين الى الزرقة نظرة حالمة. في سلوكها اناقة حقيقية وفي اعماق قلبها غليان من مشاعر محمومة لكنها تحتفظ بمشاعرها لنفسها... لم تطلب قط اي شيء. هي اعطت اكثر مما اخذت ولذلك فهي شديدة الشبه بمناخ باريس.. منطوية ومزاجية وملآى بالوعود. في عينيها نداوة.. بشرتها فاتحة وهي لا تستعجل عمل اي شيء على الرغم مما تنطوي عليه من ضيق صدر شديد. شبيهة كل الشبه بهذا الفصل.. انه الشتاء لكنه شتاء يساعد للانفجار في ربيع فائق الحيوية".

وتتنقل الكاتبة بين الانسان عبر هذه المراة وبين الطبيعة رابطة احدهما بالاخرى في عدوى لا نعرف مصدرها الاول اهو نفس الانسان ام الطبيعة. تقول "غير ان حدائق اللوكسمبورج القريبة من هنا مترفة مثلها حقيقة بتجردها لانها اختزلت الى اشكال جوهرية.. فلا لون يذهلك ولا تشكيلة نباتية. حين تذهب للقائها تواجهك غابة دكناء من اعمدة وجذوع اشجار تقف منتصبة وحية مثل جيش جمدته الكاميرا. كان على ضيفتنا ان تغادر فتركت وراءها فراغا وغيابا.. شيئا شبيها بأسئلة معلقة في الهواء".

وتستحضر بعض صفات باريس فتقول في فصل اخر " في المقهى كانت تجلس صديقتي كلود ومعها كتاب شعر. لا يدور بيننا اي حديث مهم الا عن ان باريس جميلة. لكن كلمة جميلة تلك تتضمن قرونا من حياة وحروب واشياء عن الايمان والموتى. باريس جميلة بكل تأكيد وهي اخر مدينة عظيمة في العالم حافظت على روحها وتعمل مثل ماكينة زيتت جيدا. باريس جميلة. انه قول يؤلم فذراعا المرء لا تكفيان البتة لاحتضان اتساع كهذا".