هؤلاء القراء الذين يرى الروائي الألماني المعاصر باتريك زوسكيند في رائعته "العطر" أن بوسعهم "أن يغمضوا عيونهم أمام ما هو عظيم، أو مروع أو جميل، وأن يغلقوا آذانهم أمام الألحان والكلام المعسول، ولكن ليس بوسعهم الهروب من العبق، لأنه شقيق الشهيق. فهو يدخل معه إلى ذواتهم، من دون أن يستطيعوا صده، إن رغبوا بالبقاء على قيد الحياة، كما أنه يدخل إلى أعماقهم، إلى القلب مباشرة، حيث يتم الفصل الحاسم بين الميل إليه أو احتقاره، بين القرف منه أو الرغبة فيه، بين حبه أو كرهه".
في هذه الرواية، يمتلك البطل حاسة شم خارقة، يمكن لها التعرف إلى مئات الروائح، من مسافات بعيدة وتكون قادرة في الوقت نفسه على تحليلها إلى عناصرها الرئيسية، في الوقت الذي تمتلك فيه أيضا ذاكرة بارعة في استيعاب كل الروائح التي استنشقها وحفظها، مع قدرة هائلة على استدعائها من خزانة الذاكرة في أي وقت.
ربما لذلك، تنتمي رواية "العطر" لباتريك زوسكيند إلى تلك النوعية من الروايات، التي تدفعنا في كل مرة، نتمكن من العثور عليها إلى التساؤل: من أين أتى هذا الروائي بهذه الفكرة؟ ومكنه من سردها بتلك البراعة؟
منذ العام 1985 تفوح رواية "العطر" لـ زوسكيند، وبعد مرور ما يقارب 4 عقود على صدورها، ما تزال تتصدر قائمة أكثر الروايات رواجا في القارة الأوروبية، إلى جانب ترجمتها إلى أكثر من 48 لغة، وتجاوز حجم ما بيع منها حول العالم، حاجز الـ20 مليون نسخة، ونيلها العديد من الإشادات الإيجابية من النقاد في كل لغة ترجمت إليها، فيما ظلت ضمن اللائحة التي تحوي أفضل الروايات مبيعًا على مدار 9 سنوات متتالية، على الرغم من كونها أول الأعمال الروائية لهذا المؤلف، هذا عدا عن أنه تم تحويلها إلى فيلم سينمائي العام 2006، أخرجه المخرج الألماني توم تيكوير، وقام ببطولته كل من: داستن هوفمان وآلان ريكمان. وتم ترشيحه هو الآخر لأكثر من 25 جائزة، كان من نصيبه 12 جائزة منها.
ولا يتوقف الأمر عند هذا، فمنذ منتصف الثمانينيات وحتى نهاية التسعينيات، كان كل ما ينشره زوسكيند، يحتل على الفور مكان الصدارة على قائمة المبيعات.
على الرغم من ذلك، فإن السؤال الذي ما يزال يطرح نفسه هو: ما الذي جعل هذه الرواية تتحول إلى أسطورة في عالم الأدب؟.
من سيتورط في قراءة هذه الرواية، سوف تمر على خاطره أنواع متعددة من التساؤلات، لكن أولها سيتعلق بالكيفية التي أمسك عبرها المؤلف، بخيوط الرواية وبمثل تلك الطريقة البارعة؟ كيف التقط هذه الفكرة، ثم صاغها على هذا النحو، بينما لم يكن قد تجاوز عامه الـ36 وقت كتابتها، قبل أن يحصل من بعدها على الجائزة المخصصة للثقافة الفرانكوفونية من فرنسا، ثم يقرر عقب ذلك التفرغ تماما للكتابة.
الحكاية تشير إلى غرينوي، ذلك الكائن غير المرغوب فيه، ولد وسط سوق للسمك، موبوء بالروائح الكريهة. فيما حكم بالموت على والدته العاملة في هذا السوق، لأنها تركته ملقى بين النفايات، كما فعلت من قبل مع مواليدها الأربعة الذين ولدوا مثله سفاحا.
واصل غرينوي نموه في صمت، متميز بشر مخيف، وبعد موت والدته، رفضت جميع الحاضنات اللواتي توالين على إرضاعه، الاحتفاظ به، لأنه لم تكن له رائحة "كسائر أطفال البشر".
تتواصل أحداث الرواية، لتدور حول جان باتيست غرينوي، الشاب الذي يولد من دون رائحة تخصه، ولكنه يمتلك حاسة شم فائقة، ذلك القاتل غريب الأطوار الذي عاش في القرن الـ18، وسعى لإنتاج عطر أروع من أي عطر آخر، ولكنه يتورط في أحداث جرائم قتل تودي بحياة 25 فتاة، بعد أن بات على قناعة من أن أجمل الروائح هي عبير الفتيات العذراوات، اللواتي في سن الـ17 عاما، ليستخلص منهن عبيرهن، ثم يقوم بعمل أقوى عطر عرفه العالم، ذلك العطر البشري، الذي سيجعل الدنيا كلها تركع تحت قدميه.
جاء باتريك زوسكيند بما لم يكن قد تم طرحه منذ أن ظهرت الرواية، ولا سيما المضمون الغرائبي الذي لم يسبقه أحد إليه، فهي تحكي عن روائح البشر وعن تركيب العطور وصناعتها، وهو ما يمكن اعتباره في هذا الإطار، معجما شاملا لنشوء العطور منذ القرن الـ18، الذي تدور أحداث الرواية فيه، وحتى نهاية موت بطل الرواية في العام 1797، الأمر الذي شكل من باتريك زوسكيند ظاهرة فريدة بين الكتاب الألمان، فهو لم ينشر طوال احترافه للكتابة الأدبية، سوى أعمال قليلة، إلا أنها حققت شهرة عالمية مذهلة، ولا سيما روايته "العطر".
يرى زوسكيند وفقا لما أورده في روايته "العطر"، أن "عبق الرائحة الطيبة قدرة فائقة على الإقناع، أقوى من الكلمات، ونور العين، والشعور والإرادة، وإن هذه القدرة على الإقناع لا تقاوم، وهي تتغلغل فينا، كما الهواء في رئتينا، إنها تملؤها، تتعشق فينا، وليس من وسيلة لدرئها".
وفي موضع آخر يشير، إلى "أن بوسع البشر أن يغمضوا عيونهم أمام ما هو عظيم أو مروع أو جميل، وأن يغلقوا آذانهم أمام الألحان والكلام المعسول، ولكن ليس بوسعهم الهروب من العبق، لأنه شقيق الشهيق، فمعه يدخل إلى ذواتهم، ولا يستطيعون صده، وإن رغبوا بالبقاء على قيد الحياة. وهو يدخل إلى أعماقهم، إلى القلب مباشرة، حيث الفصل الحاسم بين الميل إليه أو احتقاره، بين القرف منه أو الرغبة فيه، بين حبه أو كرهه".
لكن التساؤل يظل مطروحا، حول ما إذا كان الصدى الواسع، الذي حصلت عليه، قد نتج بسبب فكرتها الفريدة، أم لأسلوبها السردي المتميز. غير أنه في كل الأحوال، فإن "العطر" باتت واحدة من الروايات القادرة بيسر، على شد انتباه القارئ، وترك تأثير عميق لديه.
وباتت هذه الرواية، واحدة من أهم الأعمال التي عرفها الأدب السردي، باعتبارها من بين الروايات الخرافية التي تتناول الواقع، والتي تمكن المؤلف ببراعة من انتزاعها من ذلك النسيج الموغل في الخرافة، وطرحها على أرض الواقع بإتقان بالغ، الأمر الذي هيأ لها مكانة بارزة، واحدة من أشهر الروايات العالمية في العصر الحديث.-(الجزيرة نت)