"على هذه الأرض ما يستحق الحياة": نحو جماليات الانتخاب

1685791645847058600
محمود درويش

عمان-  تتأسست جهود الناقد فخري صالح في هذا الكتاب "على هذه الأرض ما يستحق الحياة.. مختارات". ينجز صالح مختاراته/ منتخباته رغبة في "تجديد ذكرى محمود درويش" في الأفق الذي يستدعيه "ميلاده الثمانين" من "عمره الذي لم يكتمل" بوصفه علامة من علامات الشعرية العربية، على امتداد أزمنتها، إذ يبدو الناقد هنا مؤمنا بهذه الفكرة "عالمية شعر درويش"، وضرورة إنجاز مختارات شاملة من شعره يكون فيها إلقاء الضوء على قدرة درويش "مبدعا خلاقا، على تحويل الفردي والشخصي في حياته وحياة الفلسطينيين إلى تجربة جماعية كبرى، تضيء القضية الفلسطينية، وتضعها في وجدان العرب المعاصرين كما في ضمير العالم ووعيه".اضافة اعلان
إن هذا المشروع الذي أنجره الناقد صالح جاء متحمورًا حول ثيمة أساسية هي انتخاب نماذج من شعر درويش، تضيء مراحل الشعريّة الفذة التي أنجزها درويش عبر إحدى وعشرين مجموعة شعرية، بدءًا بـ"أوراق الزيتون، 1964" وانتهاء بـ"لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي، 2009".
وانطلاقًا من هذا التصور لمفهوم الانتخاب الشعري تجسد هذه الاختيارات تحولات الشاعر، ونقاط توهجه، وانعطافاته الحادة، وصولا - وكما يقول إداورد سعيد- إلى الأسلوب الأخير الذي انتهت إليه القصيدة الدرويشية، يقول الناقد صالح: "لقد اخترت قصائد من مجموعاته كلها للإضاءة على تطوره الشعري، وتطور لغته وموضوعاته وفكره ورؤيته السياسية وطريقة نظره إلى الشعر وفهمه العميق للتحولات التي مرت بها تجارب الشعراء في العالم".
ينطلق الناقد صالح في مختاراته الراهنة من رؤية نقدية تحكم عمله وتسوره في إطار رغبة الناقد في إنجاز مختارات تتسم بالإحاطة والشمول، وتقف عند أبرز اللحظات توهجًا في إطار التجربة الدرويشية.
وتتحقق مستويات الانتخاب في هذه المختارات على مستويات ثلاثة وهي: مستوى العتبات العنونة والإهداء، ومستوى التقدمة النقدية، ومستوى المختارات ذاتها.
يمارس صالح مبدأ الانتخاب في صيغة العنوان التي انتخبها لاختياراته؛ ذلك أن هذا العنوان يختزن في شيفراته الدالة الثمة المركزية في التجربة الشعرية الدرويشية، إذ ينطوي العنوان "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" بما يستعديه من إشارة إلى فلسطين/ (هذه الأرض)، واستمرارية الحياة/ (يستحق الحياة)، على محمولات سيميائية دالة ترتبط بهذه الثيمة التي تدور تجربة الشاعر في فضاءاتها وهي ثيمة فلسطين، بما هي وطن مفتقد، وذكرى مبرحة، وأرشيف من الذكريات والأحلام والرؤى.
وإذا كان الإهداء عتبة مركزية في الفكر السيميائي، فإنها تغدو وفقا لنظرية الانتخاب مظهرًا من مظاهر وعي الناقد صالح بقيمة ثالوث يمثل الميلاد والموت أقنوميه في حين أن الزمن يمثل نقطة توسطه، فالناقد انتخب زمن/ وقت صدور هذه المختارات في الذكرى الثمانين لميلاد درويش، لتجديد ذكراه، يقول صالح: "إلى محمود درويش في أفق الثمانين من عمره الذي لم يكتمل"؛ وبذلك يغدو الزمن المنتخب لإصدار هذه المختارات.
خطاب المقدمة يشتمل على عناوين فرعية تمهد لهذه المختارات فإن "القضايا" و"الإشكالات" التي تثيرها هذه العناوين تمثل موضوعات انتخبها الناقد وهو يدرك أنها تمثل فواتح أولى لقراءة درويش، فهي تنضوي على كل أبعاد تجربة دوريش بصورة عامة، وهي على هذا النحو: "محمود درويش: من شعر المقاومة إلى إدراج فلسطين في وعي العالم"، و"أسطرة التجربة الفلسطينية"، و"مشاغل شعرية بطموح كوني"، و"شبه سيرة ذاتية"، و"شاعر حب أيضًا"، و"شاعر يتأمل موته".
وعليه فإن الإشارات/ الإضاءات التي يتحدث عنها  الناقد في مقدمته دالة ومستوعبة؛ لأنها تنتخب أبرز معالم التجربة الدرويشية، بوصفها علامات كبرى "تدل القارئ على تطور تجربته"؛ ولأنها تتبدى في أتون هذه الاختيارات إلماعات تدل على ثقافة الناقد صالح في انتخاب/ تخير هذه النماذج؛ فهو يختار قصيدة "بطاقة هوية" التي يعرفها الناس بـ"سجل أنا عربي" وهو يعي موقف درويش من هذه القصيدة، بيد أنه يحتكم إلى نظرية الانتخاب في اختيارها؛ لأنها تمثل في إطار التجربة الدرويشية، علامة دالة على مرحلة مهمة من شعر درويش، اتسمت بالخطابية والمباشرة والنبرة الغنائية؛ وهو نمط شعري هجره درويش منذ بداياته، رغبة منه في الانتقال من شعر المقاومة إلى إدراج فلسطين في وعي العالم؛ فقد أصبح درويش حريصًا على الكتابة في إطار عالمي وإنساني؛ يحرر تجربته من إسار تصنيفه دومًا على أنه أحد ألمع شعراء المقاومة في الأرض الفلسطينية.
ومن "جماليات الانتخاب"، التي مارسها الناقد صالح في تخير النماذج الشعرية ما ظهر في حرصه على أن تكون مختاراته شاملة لتجربة درويش في كل طور من أطوارها؛ دون إغفال أي طور منها، لأنه ينطلق من مبدأ مركزي، هو تقديم مختارات شاملة، تضيء معالم التجربة الدرويشية برمتها منذ مجموعته الأولى، المبكرة جدا، والتي تمثل - كما سبق- فاتحة الكلام، وأول القول في تجربة درويش، وحتى مجموعته الأحيرة التي نشرت بعيد موته "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي، 2009" التي أعاد فيها ممارسة فعل التحديق في وجه ثيمة الموت، الذي اقترب منه فصار قاب قوسين أو أدنى!.
ويدخل في حيز ذلك وعي الناقد صالح بضرورة تنحية نثر درويش عن هذه المختارات؛ لأن "درويشًا" نحاها بنفسه وفي حياته ومارس فعلا نقديا، وهي ممارسة يرى الناقد صالح،  أنها تمثل تجربة الشاعر الناقد، وأن أي قراءة لشعر درويش، يجب أن تنظر إلى هذه الرؤية بعين الاهتمام، "فقد أراد هو أن يحذف من عمله ما لا يريد إدراجه في أعماله الشعرية الكاملة، وضم ما اعتقد أنه ينتمي إلى النثر وعوالمه إلى كتب تضم نثره ومقالاته الفكرية والسياسية والوجدانية".
وعليه، فإن عمل الناقد صالح في أصله اختبار لصيرورة النماذج المنتخبة من شعر درويش، وفحص لامتدادها في الزمان والمكان، لأن هذه النماذج المنتخبة تختزل معالم التجربة الدرويشية.
* باحث من الأردن