بعد "عالم صوفي" و"فتاة البرتقال"
نوال العلي
عمّان-في أجواء شبيهة بأجواء القصص الخرافية ومغامرات الفرسان القديمة، يقدم جوستاين غاردر روايته الثالثة "سر الصبر" والتي لفتت إليه الأنظار ونال عنها جائزة النقد الكبرى.
إذ يحاول غاردر أن يعبد الطريق إلى الفلسفة والأساطير، مكوناً منهجه المنفرد في تقديمها بشكل مبسط وممتع، بل ويتجاوز ذلك إلى اقتفاء أثر الفلسفة والبحث عن إجابات ومساءلة المسلمات والتغيرات التي يحدثها كل ذلك في عالم شخص عادي.
ويخرج غاردر في اسلوبه الفلسفة من عالم النخبة إلى طريقة وأسلوب في العيش وفهم ما يحدث وبشكل يومي في العالم. هذا فضلاً عن امتلاكه القدرة على تحويل الممارسات الذهنية الجوهرية والجدية المعقدة إلى مسألة في غاية الحيوية والخفة غير المتوقعة. فهذه الرواية التي نشرت قبل عالم صوفي في النرويج تقترب في بنائها من القصص الخرافية حيث كل شيء متاح وممكن ومعقول.
فعن دار المنى بالسويد قدم المترجم الجزائري المقيم في الأردن مدني قصري نسخة عربية عن رواية "سر الصبر" والتي جاءت في 385 صفحة استطاع قصري فيها أن ينقل أجواء الرواية بحميمة ومصداقية، إذ تعد هذه الرواية الثانية بعد "فتاة البرتقال" التي ترجمها للمؤلف نفسه.
تدور أحداث الرواية حول البطل النرويجي الصغير ابن الاثني عشر عاماً "هانس توماس" الذي يسافر في الرحلة الكبرى من أريندال إلى أثينا بلاد الفلاسفة مجتازاً أوروبا مع والده بحثاً عن والدته التي سافرت إلى اليونان وهو في الرابعة من عمره باحثة عن ذاتها، فتغرق في عالم الموضة والأزياء.
وتبلغ العقدة فيها ذروتها ما أن يعطي أحد الأقزام للصغير عدسة مكبرة في محطة وقود على حدود سويسرا، وفي المساء التالي يصل هانس توماس بصحبة أبيه إلى مدينة دورف، حيث يلتقي الصغير بالخباز المسن والطيب الذي يعطيه فطيرة مسحورة يتبين فيما بعد أن تحتوي على كتاب متناه في الصغر.
وفيما يقرأ هانس توماس في الكتاب تتنوع أحداث الرواية بين استشراف المستقبل وبين فلسفة كل الأحداث مع والده أثناء رحلتهما إلى الجنوب قائلاً "ظني أن أبي تقمص الجوكر كفيلسوف فقد كان يدعي أنه يرى أشياء غريبة لا يراها أحد سواه".
يسعى هانس في البحث عن الصلة بين العدسة المكبرة وبين الكتاب المنمنم الذي أخفاه خباز دورف في داخل الفطيرة، متساءلاً عن غرابة القدرة على تأليف كتاب بخط متناه في الصغر لغزاً محيراً في حد ذاته.
يلتقي هانس في الكتاب بلودويغ وألبير وهانس الخباز، والثلاثة عاشوا طفولة شاقة قبل أن يصبحوا خبازين في "دورف" ويستحضر هانس الخباز شخصاً يدعى"فرود" بحوزته لعبة ورق عجيبة يكتشف أنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحياة هانس توماس الصغير. وحتى تحل الألغاز كلها، يتعلم هانس توماس وعائلته الكثير من الدروس المهمة عن أنفسهم وماضيهم.
يصطحب غاردر قارئه في تحقيق معقد حول طبيعة الوجود. ويعتمد في عمله هذا رمزية خيالية وغرائبية. وقد يجد البعض فيها عقداً متفرعة تتعلق بجزر سحرية مختفية أو شراب الليمونادة السحري وغيرها من التفاصيل الجامحة في الخيال.
إن تيار الدهشة في "سر الصبر" لا يتوقف، وتكمن خلاصة الكتاب في حيرة هانس توماس من أمر البشر الذين يتحركون يمنة ويسرة فلا يسائلون ذواتهم من هي ومن أين جاءت، إذ كيف يمكن الحياة على الأرض بعيون مغمضة وكيف يمكن رؤية الحياة بديهية عادية.
الكتاب يحاول التصدي للإجابة عن أسئلة وجودية عميقة عبر استعراض مئات الأسئلة، وآلاف الإجابات الناقصة التي يكمل التاريخ حلقاتها واحدة تلو الأخرى. إنه علم التساؤل الدائم. فقد ولدت الفلسفة والأساطير من خلال دهشة البشر.
والأسئلة التي تطرحها الفلسفة تتعدى الحاجات الأولية للبشر. فالإنسان لا يحيا بالخبز وحده ولكنه يرغب في معرفة من هو ولماذا يعيش؟ وكيف خلق الكون؟ وهل ما وراء كل ما يحدث إرادة أم حس؟ وهل توجد حياة أخرى بعد الموت؟ في البداية حاول البشر الإجابة عن كل هذه الأسئلة من خلال الأسطورة، وجاء الفلاسفة بأسلوب مغاير يحاول أن يتخلص من الأسطورة ويعيد الفكر إلى جهد العقل الإنساني.
وتتنهي الرواية بسرد تفاصيل لعبة الجوكر المشهورة التي يشارك فيها الأقزام في جزيرة عجيبة، وتنبثق الشخصيات من المخيلة المبدعة في فضاء تختلقه اختلاقاً، وتتبدى من خلال اللعبة أن حقيقة جذور الطفل هانس توماس مدونة في أوراق اللعب أما القدر فهو ثعبان يتلوى جوعاً فلا يتورع عن أكل نفسه .
ويدرك الطفل في النهاية أن الرجل صاحب الفطائر هو جده الحقيقي والمرأة الجميلة التي لم تجد ذاتها تجد ابنها الغالي في الساحة. فيجتمع شمل العائلة من جديد وتنتهي بهم الرواية في رحلة العودة، بينما يتساءل هانس توماس إن احتوت الفطائر على كتاب حقاً، أم تراه كان يحلم فقط؟ موقناً أن ثمة جوكرا سيبقى سائحاً في العالم حتى لا ينام الناس على قناعاتهم الثابتة. فلعبة الصبر لعنة إحدى الأسر، هناك دائماً جوكر يخترق السر الخفي فالأجيال تعقب الأجيال، لكن سيظل ثمة قزم في مكان ما من العالم لن يكون للزمن عليه من سلطان فمن يكشف عن الأقدار باق لا محالة.