يقول المؤلف في مقدمته للكتاب الذي يشتمل على مجموعة من الخطب، من عصور أدبية مختلفة، "كانت تلك الخطب الوسيلة الأساس في خطاب الجماهير، وإثارة حماستهم بما تحمله من خصائص وميزات أهمها الإقناع والتأثير، واسترعاء الانتباه بما يتوافق مع طبيعة المتلقي واحتياجاته، وهذا أمر جد عظيم أن يظفر به الخطيب، ويتمكن من معرفة طبائع الخلائق، فلا يكلّمهم إلّا فيما يعرفون، فيكون في أتمّ المعرفة بنواميسهم ومشاربهم التي تقوي عملية الاتصال والتواصل، وتصل بالخطيب إلى غايته؛ لتحقيق النجاح، وإلا فلن يكون له ما يريد".
ويوضح أن عنوان الكتاب: تحليل الخطاب في كتاب (العقد الفريد: الخطب أنموذجا) دراسة نصية تداولية، جاء ليسلط الضوء على أبرز الخطب وقائليها، ودراستها دراسة لسانية نصية، ملتفتة إلى منهج لساني حداثي؛ إذ جمع الكتاب بين النظري والتطبيقي في التركيز على بعض الخطب الواردة في كتاب "العقد الفريد".
ويشتمل كتاب "العقد الفريد"، على مائة وعشرين خطبة موزعة على عصور مختلفة، منسوبة لفئات متنوعة، وموضوعات متباينة، بما فيها خطب الخوارج، وخطب الأعراب، وخطب النكاح وغيرها. ووقع اختيار الباحث على خمس عشرة خُطبة، استأثر القسم الأول بأربع خطب، واشتمل القسم الثاني على إحدى عشرة خُطبة، أربع منها لأفعال الكلام، وأربع للاستلزام الحواري، وثلاث للحجاج.
ويضيف عودة، "حاولت في اختياري لهذه الخطب أن أوائم بين الاختلاف الزمني والاختلاف الموضوعي؛ فمن جهة الزمن اختلفت الخطب تبعا لاختلاف العصور، الإسلامية والأموية والعباسية، إضافة إلى خطبة من خطب الخوارج وأخرى من خطب الأعراب، ومن حيث الموضوعات تباينت الخطب في الموضوعات التي تناولتها تباينا مقصودا، وذلك طلبا للتنويع عرضا وتحليلا".
وتحت عنوان "منتهى القول"، يشير المؤلف إلى أنه قبل أن تحط الدراسة عصا الترحال، وتشارف على الانتهاء، وقف الباحث على درس لساني حديث يهتم بالخطاب، ويعالج عناصر تسهم في توضيح بعض المقاصد التي تخفيها البنية السطحية وراءها؛ فمن الجميل أن يقف المحلِّل على المنطوق، ولكن من الأجمل أن يقف على المسكوت عنه للولوج إلى عالم يختفي خلف الكلمات، وذلك لأنّ الآليات التداولية تسمح بالولوج في مضامين النصوص التراثية من خلال ما صرح به، وما سكت عنه، لاستكناه خباياها، ومعرفة أسرارها.
ويتابع عودة جمع الدرس في ثني صفحاته السابقة بين دراستين: أولاهما الدراسة النصّية، وثانيتهما الدراسة التداولية. وجاءت الدراسة مُقسَّمة على أربعة فصول تسبقها مقدمة، وتعقبها خاتمة. وارتدادا على ما سلف، نجد أنّ الدراسة في عناوينها ائتلفت من تمهيد تعريفي بابن عبد ربه، ونبذة عن كتابه "العقد الفريد"، أمّا الفصل الأول، فقد تناول الباحث فيه المادة التنظيرية لهذه الدراسة، فاشتمل على مفاتيح الدراسة لغةً واصطلاحًا، للوقوف على تاريخها وكيفية ظهورها قديمًا وحديثًا.
ويقول المؤلف إن كتابه جاء في ثلاثة فصول هي التالية: مادة تطبيقية على محاور متنوعة، فابتدأ الباحث بآليات تماسك النص، منتقلا في الفصل الثالث إلى الأفعال الكلامية والاستلزام الحواري، ومنتهيا في الفصل الرابع إلى نظرية الحجاج. ووقف الباحث في هذه الفصول على نماذج مختارة من خطَب واردة في كتاب "العقد الفريد"، لافتا إلى أن هذه الدراسة رغم حداثتها، وتناولها لكتاب من كتب التراث، إلا أنّ المقوِّمات الأساسية الحديثة التي تقوم عليها لها أصل متجذر في التراث العربي القديم، وخير ما يمثل ذلك نظرية النظم الجرجانية القائمة على الاختيار الدقيق لمعاني النحو حسب الغرض الذي صيغ الكلام من أجله، وغيرها من نظريات تقوم على مطابقة الكلام للمقام، وهذا ما تقوم عليه التداولية من مراعاة المقاصد والأغراض بكلام منسجم مع المقام والسياق، وهو الأمر المماثل في النصية، فآثارها في كتب القدماء ماثلة في الحذف والتكرار والإحالة وهلمّ جرا.
ويوضح عودة أنه تتبَّع في دراسته وظائف اللغة من خلال تحليله الخطاب في خطَب مختارة من كتاب "العقد الفريد"، فوقف على وظيفتين: أولاهما دراسة النصّية، وثانيتهما دراسة التداولية، فعالج في الأولى الخصائص التي أفضت إلى الاتساق والانسجام، وطرق الكشف عنهما، بالاستناد إلى نحو النصّ الذي يقوم على تفكيك البنية اللغوية، وينظر إلى النص ككلّ، مشيرا إلى أنه استند في الوظيفة الثانية، أعني التداولية، إلى اللغة ودراستها حال استعمالها في السّياق، فالتداولية تتعامل مع اللغة كظاهرة خطابية اجتماعية تقوم على الاتصال والتواصل في سياق معين، والاهتمام بكيفية إنتاج المتكلم فعلًا كلاميًّا في موقف معيَّن؛ للوصول إلى المعنى المراد الكامن خلف الفعل الكلامي.
ويقول إن دراسته هذه خلصت إلى أهم ما وقع البصر عليه: الدرس اللساني والأفعال الكلامية درس حديث النشأة، ومع ذلك لا ينكِر وجودها في التراث العربي القديم إلّا جاحد، فقد ظهرت في كتب البلاغيين المتأخرين. ورغم أنّ الدرس اللساني التداولي درس حديث، إلّا أنّ ذلك لا يمنع من دراسة التراث العربي القديم وفق هذه الظواهر، وتحليله ضمن عناصر وخصائص هذا الدرس:
"يُنظر إلى الجمل النصّية نظرة كلية، ولا تُدرس منفصلة عن السياق الذي قيلت فيه، مرتبطة بما سبقها وما لحقها من جمل، ليكتمل المعنى الذي قصده المتكلم، الاتساق والانسجام عنصران متداخلان تطبيقيًّا، يعملان معا للوصول إلى الفهم الصحيح للنصّ، ويرتبطان في علاقة ما بين الظواهر اللغوية والمضمون المختفي خلف المعنى، أمّا من الناحية النظرية، فبالإمكان الفصل بينهما نظرًا لاعتماد كل منهما على تعريف وخصائص وعناصر تميزه من غيره، الآليات والأدوات المتبعة لتحديد انسجام النصّ من عدمه ليست نهائية ثابتة، وهي كذلك ليست قوانين مطلقة يتبعها الباحث أثناء التحليل؛ ودليل ذلك تنوعها واختلاف تصنيفها عند الباحثين".
هناك ارتباط وثيق بين الفعل الكلامي والواقع؛ ولذا فإنّ قصدية الأفعال الكلامية لا تتعين إلّا من السياق الذي ترد فيه، التفاعل الخطابي قائم على عنصرين: المتكلم والسامع، ومنهما تتنامى أشكال التفاهم بين الطرفين، ومن خلال هذا التفاعل تظهر طبيعة الفعل الكلامي، وطرائق تحقيقه سواء بطريقة مباشرة أم غير مباشرة، الغاية الأساسية للأفعال الكلامية التأثير في السامع من خلال فعل القول والفعل الإنجازي وصولا إلى الفعل التأثيري، فالحروف أقوال تؤدي أفعالا إنجازية للقيام بوظيفة تأثيرية في السامع. فحرف القَسَم "الواو" في تأديته لمعناه ليس حرفا فقط، بل يخرج من هذه البوتقة إلى أن يعد فعلا كلاميا يرمي إلى إنجاز أفعال معينة أو الإفصاح عن حالة نفسية أو موقف اجتماعي يدلنا السياق عليه.
احتوت الخطَب موضع التحليل على ثلاثة أنواع من أفعال الكلام: أولها الفعل النّطقي، وثانيها الفعل القَضَوي، وثالثها الفعل الإنجازي، تنوّعت الأفعال الكلامية في الخطَب التي تناولها الباحث، فقد سجل الباحث حضورًا لافتًا للأصناف الخمسة: الإخباريات، والوعديات، والطلبيات، والتعبيريات، والإعلانيات، يظهر الارتباط الوثيق بين النصّية والحجاج، فقد لعبت الروابط الحجاجية والعوامل الحجاجية دورا بارزا، وأضفت على النصوص انسجاما وترابطا محافظة على الانسجام والاتساق الشامل للخطاب، يُعَد الحجاج فعالية خطابية حوارية يقوم بمهمة توظيف التقنيات اللازمة لإنجاحه التي من شأنها أن تؤدي إلى التسليم بما يعرَض عليها، أو أن تزيد في درجة ذلك التسليم. وممّا يميز بُنية الملفوظ الحجاجي للخطَب السابقة، تفاعل الجوانب الحجاجية مع الآليات البلاغية من خلال الحجاج بالتصوير البياني والبديع، وبروز الأساليب الإنشائية.
ويُذكَر أنّ د. مؤيد عودة هو باحث وأكاديمي فلسطيني، حاصل على شهادة الدكتوراه في اللغة العربية تخصص اللسانيات، حاصل على شهادة دبلوم عال في أساليب واستراتيجيات التدريس، وصدر له عدة أبحاث منها: بحث بعنوان "تمثلات المدينة عند مريد البرغوثي"، "تقنيات الحجاج في خطاب ياسر عرفات في الأمم المتحدة"، و"مظاهر الاتساق في قصيدة علي بن الحسين".