بعد صراع طويل مع مرض اسمه.. الحياة

بورتريه للراحل جهاد هديب بريشة الزميل ناصر الجعفري
بورتريه للراحل جهاد هديب بريشة الزميل ناصر الجعفري

سامر أبوهواش

على عكس صورة شائعة عند من لم يعرفه جيدا، لم يكن جهاد هديب صعلوكا. ألّا يكون صعلوكا، كان خيارا شخصيا، ذوقا أو رغبة، أكثر منه موقفا، كأن تحب أو لا تحب كرة القدم، دونما حاجة إلى أن تبرر ذلك لأحد. أصدقاؤه سيروون عنه، غالبا في حضوره، قصصا طريفة تشبه حياة سفلية ما، أو تجاورها في كثير من الملامح والصفات، حياة يصبح فيها المهزوم بطلاً، ويتفوق المعدم على الثري، ومن لا ظهر يحميه ينتصر، أو يتوهم الانتصار، على العالم بأسره. كان جهاد يشاركنا هذه القصص، وربما يزيد عليها، مبتسما بمكر محبب، خاصة عندما يتعلق الأمر بهزيمة نسائية ما لحقت بأحد "كبار المثقفين" بسبب هذا الشاب الذي... ليس "كبيراً".اضافة اعلان
في عمان وخارجها، لم تكن الصعلكة أو ما شابهها، خيارا بالنسبة إلى جهاد. غالبا ما نخلط في المعيش العربي بين الصعلكة والشقاء؛ بين عدم الانتماء إلى منظومة أو طبقة اجتماعية ما، وبين عدم القدرة على ذلك. جهاد هديب كان شابا فلسطينيا فقيرا، واحدا من أبناء المخيمات ممن لم تفتح لهم الحياة -بما فيها بعض أنماط الحياة الفلسطينية- ذراعيها. وبالتالي، كل شيء كان ينبغي أن يمر بطريق طويلة من الشقاء، بما في ذلك إيجاد اسم ومكان ومكانة، ووظيفة، في شيء اسمه الثقافة. لم يكن جهاد الشخص النموذجي لحياة الوظيفة، وعلى الأرجح كان يتمنى مثل كثر منا أن يغادرها إلى حياة أفسح وأرحب لا تسجن الإنسان داخل عداد ساعة حمقاء. ومع ذلك، كان موظفا طوال شطر طويل من حياته البالغة، لاسيما بعد أن تجاوز الأربعين من عمره.
لم تكن الصعلكة الصفة المفضلة عند جهاد هديب. وغالبا ما كان ينتقد، وإن بتسامح كبير، بعض سلوكيات العديد من الصعاليك الذين عرفهم عن كثب. كانت الأناقة صفة أقرب وأحب إليه. ولا أعرف إن كانت أناقة السلوك الإنساني الشخصي. أناقة التواصل مع الآخرين، مقربين وسواهم؛ أناقة احترام الآخرين احتراما أصيلا لا رياء فيه، تسللت إليه من لغته الشعرية أم العكس. في شعره لم يكن جهاد صارخا زاعقا غاضبا، بقدر ما كان أقرب إلى الحزن والصمت والتأمل والنبرة المأساوية العميقة. كان أنيقا في عبارته الشعرية، بالتوازي مع كل أناقاته الأخرى. الرقة، صفة رديفة لأناقة جهاد هديب. رقة تذيب القلب لأنها تنبع من قلب ذائب. رقة لا تتوسل شيئا من شيء أو أحد. رقة ضربتها وصكتها الأيام، مثلما يضرب الذهب. لكنها رقة فطرية أيضا؛ شيء يولد مع الشخص ويستحيل افتعاله.
الكفاح كلمة غير مرغوبة في أيامنا هذه. جهاد هديب كان مكافحا بكل ما في الكلمة من معنى. هكذا عمل على نحت وتطوير لغته (الشعر) وصنعته (الثقافة)، وعلى التعلم المدرسي والجامعي، وعلى دراسة لغة أجنبية.
عكس ما كان شائعا، لم يكن جهاد شخصا عاما أو عموميا، وإن كان فاكهة أي مكان عام (معارض الكتب، المهرجانات، السهرات) يحل فيه. كان شخصا شديد الخصوصية، محبا للمكوث في عزلة غرفته، ومكابدة عمل ما أو قصيدة ما، أو ببساطة الاستمتاع بمشاغل صغيرة لا يشاركه فيها أحد.
سيقول الجميع الآن، وسنكتب في خبر الوفاة السريع، مات "بعد صراع مع المرض"، محاولين مداراة حقيقة مُرّة، وهي أن جهاد مات بعد صراع طويل مع الحياة نفسها. صراع لم يخرج منه رابحا، لأنه خرج منه باكرا في النهاية بذريعة واهية تدعى الحياة. ولكن، مع قول ذلك، يجب أن نقول أيضا للحياة نفسها إنكِ لم تخرجي منتصرة في صراعك المرير مع جهاد هديب. فقد غلبك هذا الشاعر، الأكبر منك بالتأكيد، في جولات كثيرة. وفي النهاية، يسهل أن نرى آثار الكدمات والندوب على وجهك القديم أيتها الحياة، بقدر ما رأيناها على جسد، وروح، وقلب، وصوت، خصمك اللدود، عاشقك الأكثر رقة وأناقة، جهاد هديب.