د. محمد المجالي*
مما يميز دين الإسلام، وضوح مسائله الجامعة المهمة الرئيسة. وهو لا يجامل حين يقعِّد الأصول وينوِّع الفروع، ويُطلِق الفكر. كل ذلك في رحاب نصوص متينة شاهدةٍ على الناس، تفرِّق بين مقبِلٍ على الإسلام بجد واجتهاد ومسؤولية، وآخر أقرب إلى اللهو واللعب واللامبالاة، وشتان بين الاثنين. وصدق الله: "أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمّن يمشي سويا على صراط مستقيم" (الملك، الآية 22).
ومشكلة المسلمين على مر العصور هي في مدى الالتزام العام بهذا الدين. صحيحٌ أنّ من نطق بالشهادتين وصدّق بهما فهو من أهل القبلة، ولا يجوز تكفيره إلا إذا قال قولاً أو عمل عملاً لا يمكن تأويله إلا بكفر، والمسلمون متفاوتون في التزامهم، والمصير في الآخرة إن كان جنة أو نارا فأهلها أيضا متفاوتون بحسب إيمانهم وأعمالهم، ولا يظلم ربُّك أحدا، إلا أن الذي يعنيني هنا هو هذه الآية من سورة النساء، وهي قوله تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت، ويسلموا تسليما" (النساء، الآية 65). وبغض النظر عن سبب نزولها، ففي الصحيحين أن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: سرِّح الماء يمر، فأبى عليه، فاختصما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: "اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك"، فغضب الأنصاري ثم قال: يا رسول الله، أن كان ابن عمتك؟ فتلوّن وجه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال للزبير: "اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدار". فبغض النظر عن السبب، فالعبرة –غالبا- بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإن الآية، وهي تأتي في سياق الحديث عن حق الراعي في الطاعة، وحق الرعية في أداء الأمانات والحكم بالعدل، فإنها منظومة متكاملة تشعر المسلم بضرورة الالتزام بالإسلام الكامل، وعدم الانتقاء منه حسب الرغبة والهوى، وعدم التجزئة لدين الله، مما يشكل سوء فهْمٍ له كله، أو يجعل مسائله أقرب إلى المزاجية.
هذه الآية مشعرة للمسلم الحق بضرورة الاحتكام إلى شرع الله، وفوق ذلك: أن لا يجد أحدُنا وهو يطبق شرع الله في نفسه أيّ نوع من حرج في نفسه، وفوق ذلك أيضا: أن يسلِّمَ أمرَه بشكل مطلق إلى الله، فهو الذي شرع، وهو أهلٌ وحده أن يشرع للناس، فهو خالقهم والأعلم بمصالحهم ودقائق حاجاتهم، وصدق الله وهو يصف ختام مشهد نزول الوحي على الحبيب محمدٍ صلى الله عليه وسلم: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينًا" (المائدة، الآية 3).
قد تبدو عبارات البشر –أحيانًا- قاسية، فيقال له: هوّن من أمرك، والْطُفْ بالناس في عباراتك، فماذا نقول عن نصوص قرآنية إلهية حاسمة في مسألة التزام الإسلام، مثل هذه النصوص التي أوردتها، في حتمية الالتزام الكلي بالدين، وعدم المجاملة فيه. الحمد لله أنها نصوص واضحة لا لبس فيها، تشعر كل مسلم بواجب الإسلام عليه، وضرورة أن يلتزم بشكل عام بثوابت الإسلام وقواعده، والإتيان بما أمر الله ورسوله، واجتناب ما نهيا عنه.
صحيح أن الدين فيه ما هو صريح صحيح لا تجوز مخالفته، وفيه ما هو دون الصراحة أو القطعية في المعنى، مما يفتح مجالاً للفهم والاجتهاد، فتنوعت فيه الأقوال، ولكن يبقى الأمر العام في الالتزام الكلي. فعلى سبيل المثال: الصلاة ركن من أركان الدين، وأصّلها الله في كتابه، وبينها الرسول في سنته وطبقها، وقال: صلوا كما رأيتموني أصلي. وهكذا معظم الأركان وكثير من المعاملات، وهناك هامش للاجتهاد في جزئيات الصلاة، في طريقة وضع اليد على الصدر أو البطن، في كيفية النزول إلى السجود، فيما تُفتَتَحُ به الصلاة من أذكار، وهكذا. وكذا الحج في ترتيب أفعاله وبعض أحكامه. وحجاب المرأة مثال آخر على وجوب التغطية بشروط أهمها أن لا يصف اللباسُ ولا يشفُّ ولا يجسِّم، ولا يكون زينة في نفسه، فالعلماء كلهم على هذا، والخلاف فقط في مسألة الوجه والكفين. وهكذا في شؤون الدين كلها، فهل أجتنب الصلاة والحج أو لا تلتزم الفتاة بالحجاب لوجود مسائل جزئية خلافية، وأترك الأصل؟!
وفوق هذا كله، يأتي من يناقش في أمور الدين من حيث صلاحيته للتطبيق، وأن الأحكام متغيرة لا تصلح لزماننا، ومنهم من يقول إن الدين لا يقبل السياسة، وليس فيه نظام اقتصادي، وهكذا، يعيبون الدين ولا يتهمون فهمهم القاصر، وصدق الشاعر:
وكم من عائبٍ قولاً صحيحا
وآفته من الفهم السقيم
بل إنها قضية مبدئية، فالناعقون المتهمون للدين بهذه التهم هم من أتباع العلمانية التي انطبقت على أوروبا وغيرها حين فصلوا الدين عن الحياة، أو من الملحدين الذين يرفضون الدين كليا، أو من أصحاب المذاهب البشرية، يسارية كانت أو يمينية، فالمهم أنها مصنوعات بشرية قاصرة حين كانت من صنع البشر، فكيف يُتّهم الإسلام بالقصور وهو الذي رضيه الله لنا وأكمله؟! وكيف نتهمه بانتهاء صلاحيته، وهو الذي ما يزال العلم يكتشف روعة أحكامه ودقة تشريعاته وإعجاز أوامره ونواهيه؟!
ولا غرابة فهو دين الله، حين أقبل عليه الغربيون على وجه التحديد فأسلموا، بالرغم من شدة العداوة له، إلا أنهم وجدوا راحتهم وضالتهم فيه، يعيبه أبناؤه، ويُقْبِل عليه أعداؤه! وسيتحقق وعد رسول الله يوما: "سيبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار"، وصدق الله: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون" (الصف، الآية 9)، "وكفى بالله شهيدا".
ولا يظنن ظانٌ أنني بهذا أقيّد العقل عن الإبداع والتفكير والاجتهاد، ولكن ليكن هذا في اكتشاف مكنونات الشرع وأسراره، أو في الاكتشافات العلمية في شتى مجالاتها، وليقارن أحدنا بين شرع الله وما يشرع الإنسان لنفسه أحيانا، ولا يدخل إلى أي مسألة بأحكام مسبقة، بل ليكن محايدا منفتح العقل. وهناك مسائل كثيرة ترك فيها المجال للعقل أن يبدع، في العلوم بشتى أنواعها، وكم نحن مقصرون في بلوغ أعلى درجات العلم حين اتهمنا ديننا، وجمدنا عنده وتركنا علوم الحياة، بعد أن كنا فرسان العلوم كلها، وسادة الدنيا، ولعل ذلك يرجع عن قريب، حين نفهم مسؤولياتنا ودورنا الريادي، وما ذلك على الله بعزيز.
*عميد كلية الدراسات العليا في الجامعة الأردنية