ألان رسبريدغر* - (إندبندنت عربية) 2024/8/4
التزام مالك منصة "إكس" بحرية التعبير المطلقة أسهم في انتشار زوبعة من الأخبار الكاذبة بشأن هوية مرتكب حادثة طعن جماعية شهدتها المدينة البريطانية الشمالية.
ولكن لماذا لا تراه يعير الحقيقة أهمية كبيرة؟ لا شك في أن ماسك -على الرغم من أفعاله وتصريحاته المثيرة للجدل- يتمتع بذكاء لا يمكن إنكاره.
ولذلك، عندما يزعم أن "تويتر" هو مصدر الحقيقة وأن وسائل الإعلام السائدة مليئة بالأكاذيب، سيكون من الحكمة عدم أخذ تصريحاته على محمل الجد.
* * *
على الأرجح، لم يسبق لإيلون ماسك أن سمع بمدينة ساوثبورت في شمال غربي المملكة المتحدة، ناهيك عن أن يكون قد زارها، بطبيعة الحال. فالرجل يدير خمس أو ست شركات، وكان مشغولاً في الأسبوع الماضي بالعديد من الأمور، مثل الحديث عن فنزويلا (تحدى ماسك الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو متوجهاً إليه بالقول: "سأقودك إلى غونتانامو على ظهر حمار")، وبكامالا هاريس (التي تخوض السباق إلى رئاسة الولايات المتحدة)، ومثبطات البلوغ (صرح ماسك بأنه سمح لابنه بأخذ موانع البلوغ على اعتبار أن منعه من أخذها سيجعله أكثر عرضة للانتحار)، ولماذا تكذب وسائل الإعلام التقليدية علينا.
لذلك، من الوارد أن لا تجد بعض أعمال الشغب البشعة التي اجتاحت بلدة ساحلية في مكان ما في شمال غربي إنجلترا لها مكاناً في أجندة العبقري الغريب، الذي ربما يصبح الرجل الأكثر ثراء في العالم.
وليس من المستبعد أيضاً أنك إذا أخبرت ماسك بأنه كان مسؤولاً بصورة أو بأخرى عن أعمال الشغب التي اندلعت على بعد 5 آلاف ميل (8.000 كيلومتر) من المنازل السبعة التي يمتلكها -او امتلكها- في كاليفورنيا، فإنه سيهزأ بك.
ولكن، كان هذا هو الذيحصل. عندما قرر ماسك أن يستحوذ على ما كان يسمى "تويتر" في مقابل 44 مليار دولار (ما يساوي 35 مليار جنيه إسترليني)، فإنه تحمل بذلك المسؤولية الكاملة عما يصدر عن 350 مليون مستخدم موجودين على المنصة الإلكترونية.
وكان "تويتر" -أو "إكس" الآن- هو المكان الذي انتشر فيه فيروس كريه في أعقاب عمليات الطعن المريعة التي طالت عدداً من الأطفال في ساوثبورت يوم الاثنين الماضي. وقد أثار هذا الفيروس أعمال الشغب التي اندلعت خلال اليوم التالي وحتى الآن. وماسك هو المسؤول عن ذلك.
هناك حقيقتان بشأن ماسك لا بد من معرفتهما قبل أن نتناول تفاصيل الأحداث التي شهدها هذان اليومان. الحقيقة الأولى هي أن الرجل أقرب شخص يمكن أن تجده إلى فكرة حرية التعبير المطلقة. ربما يضع حداً للخطاب غير القانوني -وإنما فقط لأن سلطات إنفاذ القانون والهيئات التنظيمية المتنوعة قد تلاحقه. لكنَّ كل شيء ما عدا ذلك مباح على "إكس". ومن الوارد أن يكون المحتوى بغيضاً أو تحريضياً أو عنصرياً و/أو غير صحيح على الإطلاق. لكنه لن يبالي.
كانت إحدى خطواته الأولى عند الاستحواذ على "تويتر" هي إلغاء، أو تقليص، حجم المجموعات التي حاولت -ولو أنها أخفقت في- جعل الموقع مساحة للخطاب اللائق والنزيه. وفي المقابل، لقيت ترحيباً كبيراً عودة الكاذبين والمروجين للمؤامرة من قبيل (مقدم البرامج الإذاعية والمؤيد لليمين المتطرف ونظريات المؤامرة) أليكس جونز.
أما الحقيقة الثانية فهي أن هناك قاسماً مشتركاً يجمع بين ماسك وبين بطله دونالد ترامب، هو الازدراء المطلق لما يسميه ساخراً "وسائل الإعلام التقليدية". خلال هذا الأسبوع فحسب أعاد نشر تغريدة لنحو 200 مليون متابع، كان قد نشرها ديفيد ساكس -وهو صديق آخر لترامب- تقول "إن أكبر انقسام بين الناخبين هو بين الأشخاص الذين يحصلون على معلوماتهم من وسائل الإعلام المستقلة وأولئك الذين غسلت أدمغتهم وسائل الإعلام التقليدية". وقد شاهد هذا المنشور 4 ملايين مستخدم.
لا شك في أن ماسك، على الرغم من أفعاله وتصريحاته المثيرة للجدل- يتمتع بذكاء لا يمكن إنكاره.
لذلك، عندما يزعم أن "تويتر" هو مصدر الحقيقة، وأن وسائل الإعلام السائدة مليئة بالأكاذيب، فقد يكون من الحكمة عدم أخذ هذه التصريحات على محمل الجد. قد تكون هذه التعليقات مبالغاً فيها أو استراتيجية وليست معتقدات حرفية. لكنه يمكن أن يكون، في رأيي، رجلاً طائشاً ومتغطرساً، ربما لا يفكر بعمق في الآثار أو العواقب المترتبة على ما يحدث على منصته وفي أماكن أخرى، هذا الأسبوع.
إليكم ما جرى. في غضون ساعات من إلقاء القبض على صبي من منطقة ساوثبورت يبلغ من العمر 17 عاماً بتهمة الطعن الجماعي، بدأت روايات مغلوطة تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي حول "علي الشكاتي" كما سمته؛ ووصفته بأنه مهاجر مسلم في المملكة المتحدة، زعمت أنه كان مدرجاً على قائمة مراقبة جهاز الاستخبارات البريطاني "أم آي 6"، وأنه طالب لجوء ومعروف لدى خدمات الصحة العقلية والنفسية في ليفربول.
لم يكن أي من هذا الكلام المذكور صحيحاً. لكنّ البحث الذي أجراه المتخصص في استراتيجيات التضليل والتحكم في المعلومات الرقمية، الدكتور مارك أوين جونز، تتبع كيف أن هذا النوع من التكهنات أدى سريعاً إلى ظهور 27 مليون تفاعل على منشورات ظهرت على وسائل التواصل الاجتماعي.
أندرو تيت، الذي أعلن نفسه كارهاً للنساء والذي يواجه دعاوى اغتصاب ويتابعه زهاء 10 ملايين مستخدم على "إكس"، نشر صورة مزيفة للمنفذ المفترض للهجوم، زاعماً أنه "مهاجر غير شرعي" على الرغم من أن الشرطة كانت قد أخبرتنا بحلول ذلك الوقت أنه مولود في مدينة كارديف الإنجليزية منذ 17 عاماً.
لكنّ هذه المعلومات، بحسب تيت، كانت كذبة روج لها ما يسميه "المصفوفة" matrix.
وكان من أبرز الجهات المروجة لهذه الادعاءات غير الصحيحة تنظيم غامض يطلق على نفسه اسم "القناة-3 الآن" Channel3 Now. وليس واضحاً أبداً من يقف وراء هذه الجماعة. ولكن سرعان ما اكتشف صحفيون استقصائيون أنها بدأت نشاطها كقناة تنشر مقاطع فيديو عن سيارات السباق الروسية.
وربما يتم تشغيلها الآن من مكان ما في باكستان أو الولايات المتحدة. هذا هو الإنجاز الذي حققته "وسائل الإعلام المستقلة" التي يحبها ماسك -أنك لا تملك أدنى فكرة عن هوية نصف مروجي الادعاءات الكاذبة.
أما النصف الآخر من مروجي الأكاذيب، الأشخاص الأكثر ذكاء الذين يلمحون فحسب أو يغمزون بالمجاز بينما يرددون الأخبار الكاذبة أو يشككون في الحقيقة، فهم معروفون أكثر.
صديقنا القديم تومي روبنسون مجرم عنصري يسمي نفسه "صحفياً" ويتابعه 800 ألف مستخدم على منصة ماسك. وقد تطرق بانسيابية تامة إلى حادثة الطعن التي شهدتها ساوثبورت ليضعها في سياق العنف الإسلامي. ويتابع روبنسون عدد كبير من رجال العصابات والمجرمين المستعدين تماماً للنزول إلى الشوارع. ويسعنا أن نقول، على ما أعتقد، أنه كان يعي تماماً ما يفعله.
وأعلن لورنس فوكس، المذيع السابق لدى قناة "جي بي نيوز" البريطانية المعروفة بتوجهاتها اليمينية، والذي يتابعه نصف مليون مستخدم على "تويتر": "كفانا من هذا الجنون الآن. علينا أن نزيل الإسلام من بريطانيا العظمى بصورة دائمة".
وعلى قناته القديمة التي يمولها الرجل الذي يريد أن يمتلك صحيفة "الديلي تلغراف"، سمح أحد المذيعين لشرطي متقاعد بأن يصول ويجول في حديثه، على أساس أن منفذ الهجوم "ربما يكون متحدراً من أصول صومالية أو شرق أفريقية... يعتقدون أنه من خلفية مسلمة، لذلك لا بد من السيطرة على الوضع".
وبطريقة أكثر نعومة أشار زعيم حزب "الإصلاح"، نايجل فاراج، في شريط فيديو وليس في مجلس العموم البريطاني إلى أن الحقيقة محجوبة عنا، وتساءل لماذا لا يكون التعامل مع الحادثة باعتبارها عملاً إرهابياً؟ يبدو إننا إزاء استراتيجية "صافرة الكلب" -التكتيك الذي يلجأ إليه الساسة لتمرير الرسائل الضمنية إلى الجماهير وحشد حماستها- والذي سبق وأن لجأ إليه نايجل سابقًا.
وفي غضون 24 ساعة، تمكن جونز من تجميع ونشر خريطة للحسابات الإلكترونية الرئيسة التي نشرت معلومات مضللة. ولو أن ماسك أعار الحقيقة أي اهتمام لكان فريقه قد فعل الأمر نفسه. لكنّ لدينا كامل الحق في أن نقول إنه لا يبالي.
لا أظن أنه يعرف، أو يهتم أساساً، بتجمع المئات من مثيري الشغب في مسجد في ساوثبورت ليلة الثلاثاء الماضي، وإصابة العشرات من رجال الشرطة. إذا كنت من أنصار حرية التعبير المطلقة، فإن عواقب المحتوى الذي تسمح بنشره على منصتك ليس من شأنك.
لا ريب في أن ماسك يريد أن يفوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل؛ أغنى رجل في العالم يتحالف مع أقوى رجل في العالم وتغمر السعادة كليهما بينما يشاهدان الأكاذيب تبتلع الحقيقة. ببساطة، إذا لم تعرف أي جهة هي المؤهلة لأن تعطيها ثقتك وتصدقها فإنك ستصدق أي شيء.
إننا نواجه خطر العودة بالزمن إلى العالم الذي عملت الفيلسوفة والمنظرة السياسية حنة أرندت على تشريحه بدقة بعد ستة أعوام من الحرب العالمية الثانية: "المواطن الصالح في الحكم الشمولي ليس النازي المخلص أو الشيوعي المقتنع، بل الأشخاص الذين لم يفقدوا القدرة على التمييز بين الحقيقة والخيال. بين الصواب والخطأ".
ومن ناحية أخرى، نتعافى نحن في المملكة المتحدة للتو من حكومة كان جزء من مهمتها الأساسية إضعاف وتقويض هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، التي ما تزال -على الرغم من كل أخطائها- متشبثة بكونها الجهة الأكثر ثقة والمتاحة للجميع، التي تزودنا بالمعلومات الدقيقة.
كانت عمليات الطعن التي عانت منها ساوثبورت الأسبوع الماضي مؤلمة ومروعة، وربما تمر أشهر قبل أن نرسم صورة حقيقية وشاملة عن الأسباب الكامنة وراء حدوثها. لكننا نعرف الآن على الأقل الاسم الحقيقي للمشتبه به: الشاب البريطاني أكسل روداكوبانا. غير أن الأحداث التي وقعت بعد ذلك كانت مرعبة هي أيضًا. وقد جعلها ماسك ممكنة، كما لو أنه لا يعرف ولا يكترث.
*آلان روسبريدغر Alan Rusbridger: صحفي بريطاني كان رئيس تحرير صحيفة "الغارديان" طوال عشرين عاماً. وهو حالياً محرر مجلة "بروسبكت" ورئيس معهد رويترز لدراسة الصحافة. وهو، بالإضافة إلى ذلك، مشارك في لجنة حماية الصحفيين.
*نشر بالإنجليزية تحت عنوان:
Elon Musk’s misinformation machine made the horrors of Southport much wors
اقرأ المزيد في ترجمات:
هل ستغير إدارة هاريس سياسة إسرائيل-فلسطين؟