أجراس الإنذار تقرع في آسيا

براهما شيلاني*

نيودلهي- يهدد الوضع المتدهور في أوكرانيا والتوترات المتصاعدة بين روسيا والولايات المتحدة بدفن "محور" الرئيس الأميركي باراك أوباما المتعثر في توجهه نحو آسيا -أكثر قارات العالم حيوية (لكنها ربما أكثرها قابلية للاشتعال أيضا). ولن تسهم جولة أوباما في اليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا والفلبين كثيراً في إنقاذ المحور أو ترسيخ سياسته الخارجية بشأن الإقليم.اضافة اعلان
الحقيقة أن العدوان الروسي في أوكرانيا ليس إلا أحدث أسباب فشل المحور -الذي أعيد تقديمه بوصفه "إعادة لموازنة القوى"- في الحصول على القبول والتأييد. فهناك عوامل أخرى كثيرة كانت تنال منه بالفعل، منها انشغال السياسة الخارجية الأميركية بالعالم الإسلامي، وإحجام أوباما عن مواجهة الغطرسة الصينية المتزايدة، وتدني النفقات الأميركية المخصصة لأغراض الدفاع، وتضاؤل تأثير القيادة الأميركية على الساحة الدولية.
والواقع أن تزايد القلق بين الدول الآسيوية إزاء السياسة الخارجية للصين التي تقوم على استعراض العضلات بشكل متزايد قدم للولايات المتحدة فرصة كبيرة لاستعادة دورها المحوري في الإقليم بتقوية التحالفات القديمة وبناء شراكات جديدة. إلا أن واشنطن ضيعت فرصتها إلى حد كبير، الأمر الذي جعل بكين تتمادى في توسيع نطاق مطالباتها الإقليمية.
لقد تلقى حلفاء وشركاء أميركا الآسيويون بالفعل ثلاث صيحات تحذيرية مزعجة على مدار العامين الماضيين، كانت كلها تحمل رسالة واحدة واضحة مفادها: أنه لا يمكن الاعتماد على الولايات المتحدة في مواجهة المد الصيني بشكل مؤثر وفعال.
أولى هذه الإشارات تجسدت في صمت أوباما عن استيلاء الصين على جزر سكاربورو الضحلة المتنازع عليها من الفلبين في تموز (يوليو) 2012. وقد وقعت تلك الخطوة التي شكلت نموذجاً تبنته الصين لضم أراضٍ أخرى متنازع عليها، رغم توقيع اتفاق بوساطة أميركية يقضي بانسحاب مشترك للسفن الصينية والفلبينية من المنطقة. هذه اللامبالاة الواضحة من جانب أوباما تجاه التزام أميركا نحو الفلبين بموجب معاهدة الدفاع المشترك المبرمة في العام 1951 والتي أعادت واشنطن تأكيدها في 2011 شجعت الصين على الاستيلاء على منطقة "سكند توماس شول" التي تدعي الفلبين ملكيتها أيضا.
صيحة تحذير ثانية تلقاها حلفاء أميركا الآسيويون عندما أنشأت الصين من جانب واحد منطقة تحديد الدفاع الجوي التي تغطي أراضي تدعي ملكيتها (لكنها لا تسيطر عليها) في بحر الصين الشرقي -وهي سابقة خطيرة وجديدة في العلاقات الدولية. ثم أعقبت الصين ذلك بأن طالبت كل الطائرات العابرة بالمنطقة بتقديم خطط ومسارات رحلاتها مسبقا، سواء كانت متجهة إلى المجال الجوي أم لا.
وبدلاً من إظهار الاستياء بتأجيل زيارة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن إلى الصين، نصحت الإدارة الأميركية الخطوط الجوية التجارية باحترام منطقة تحديد الدفاع الجوي المعلنة أحادياً من جانب الصين. على النقيض من ذلك، أخبرت اليابان شركات النقل الجوي التابعة لها بتجاهل المطلب الصيني، الأمر الذي يؤشر على تصدع متزايد في العلاقات الأميركية اليابانية.
ثم تأتي صيحة التحذير الثالثة من أوكرانيا. فبعد إقدام روسيا على ضم شبه جزيرة القرم بشكل غير قانوني، جاء رد الفعل الأميركي إزاء ذلك بالتنصل من "مذكرة بودابست"، وهي المعاهدة التي وقعها الرئيس الأميركي الأسبق بل كلينتون في العام 1994، والتي تلزم الولايات المتحدة بحماية سلامة أراضي أوكرانيا مقابل التخلي عن ترسانتها النووية.
وقد أبرزت صيحتا التحذير الأوليان إحجام إدارة أوباما عن فعل أي شيء من شأنه أن يحدث خللاً في ارتباطها الوثيق بالصين، وهي دولة أضحت ذات أهمية محورية للمصالح الأميركية. وكانت الصيحة الثالثة أكثر شؤماً وإنذاراً بالخطر؛ إذ تبين أن مصالح أميركا الحيوية يجب أن تكون في خطر مباشر حتى تقوم بما هو ضروري لدعم سلامة أراضي دولة أخرى، حتى لو كانت دولة تعهدت هي بحمايتها.
إن غلبة القوة الغاشمة هي التي تسود العالم في القرن الحادي والعشرين. وقد سارع أوباما إلى استبعاد أي رد عسكري أميركي إزاء استيلاء روسيا على القرم. كذلك ارتعشت يد الولايات المتحدة ولم تفعل إلا القليل لطمأنة حلفائها الآسيويين المتوترين في مواجهة تكثيف الصين جهودها لقلب الوضع الراهن في الإقليم براً وبحراً. بل إن الولايات المتحدة سلكت مسلكاً محايداً على أمل أن يجنبها ذلك الانجراف إلى مواجهة عسكرية بسبب تصارع بعض الدول ومطالباتها بأراضٍ متنازع عليها. ولتحقيق هذه الغاية، لم تقتصر دعوات أميركا بضبط النفس على الصين وحدها، بل وجهتها إلى حلفائها أيضا.
لكن ضبط النفس الذي اتبعته الولايات المتحدة ذاتها -سواء في مواجهة استيلاء روسيا بالقوة على القرم أو إزاء حرب الصين الزاحفة المستترة- لم يجلب أي منفعة لحلفائها. بل إن حرصها على تحاشي المواجهة بأي حال قد يؤدي بدون قصد إلى تطورات جيوسياسية تغير قواعد اللعبة، وربما تزعزع الاستقرار في المنطقة.
لعل الأهم من هذا كله هو أن سياسة أميركا المدفوعة بالعقوبات في التعامل مع روسيا من المرجح أن تجبر الكرملين على إطلاق محوره الخاص تجاه آسيا -وبالأخص نحو الصين المتعطشة للطاقة الغنية بالنقد. وفي الوقت ذاته، قد تضطر الولايات المتحدة في غمار المواجهة مع روسيا إلى التودد إلى الصين بصورة أكثر فعالية ونشاطا. وعليه، فإن أي سيناريو لحرب باردة جديدة، ستكون فيه الصين الفائز الأكبر، مما سيكسبها أرضية دبلوماسية واسعة لمواصلة تحقيق طموحاتها في الاستيلاء على مزيد من الأراضي.
في ظل المساعي الأميركية لاسترضاء الصين، فإن دولاً أخرى مثل اليابان والهند والفلبين وفيتنام تجد نفسها مضطرة إلى القبول بحقيقة أن عليها مواجهة الاعتداءات العسكرية الصينية بنفسها. ولذلك، تقوم حالياً بتكثيف جهودها لبناء قدرات عسكرية يمكن الاعتماد عليها.
قد يؤدي هذا الاتجاه إلى عودة ظهور قوى آسيوية مستقلة عسكرياً تحتفظ في الوقت ذاته بصداقة استراتيجية وثيقة مع الولايات المتحدة. وعندئذٍ ستكون هذه الدول قد حذت حذو اثنين من أقرب حلفاء أميركا؛ المملكة المتحدة وفرنسا، اللتين تمكنتا من بناء قدرات ردع هائلة بدلاً من أن تعهدا بأمنهما إلى الولايات المتحدة. وسيمثل هذا الأمر حال حدوثه تطوراً من شأنه أن يغير قواعد اللعبة بالنسبة لآسيا والولايات المتحدة والعالم بأسره.

*أستاذ الدراسات الاستراتيجية في مركز أبحاث السياسة في نيودلهي.
*خاص بـ_، بالتعاون مع "بروجيكت سنديكيت".