جون فيفر* - (فورين بوليسي إن فوكَس) 2023/7/26
لا تدور الحرب في أوكرانيا حول الأرض فحسب. إنها تتعلق بمستقبل الحوكمة العالمية.
بينما شرعت الحرب الباردة في الانحسار، أصبحت التعددية القطبية صرخة تحشيد لكل من سئم وتعب من سياسات القوى العظمى، والمواجهات النووية، والثنائية القطبية المبتذلة المتمثلة في التضليل السوفياتي والدعاية الأميركية.
كانت ملامح اتجاه "صعود البقية" هذا قد ظهرت في حركة عدم الانحياز التي بدأت في العام 1961، والنظام الاقتصادي الدولي الجديد الذي أطلقته الأمم المتحدة في سبعينيات القرن العشرين، ومشروع توطيد شرق آسيا قوية اقتصاديًا، وخلق سوق أوروبية واحدة في ثمانينيات القرن العشرين، وتعاون جنوب-جنوب الذي ظهر في تسعينيات القرن العشرين. وبحلول أوائل الألفية الجديدة، بعد ورقتين أصدرهما "مورغان ستانلي" من بين جميع الأماكن، تم تعميد كتلة "بريكس" المكونة من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، ثم إضفاء الطابع المؤسسي عليها.
في العام 2008، نشر فريد زكريا كتابه "عالم ما بعد أميركا" The Post-American World، الذي لم يكن مرثية للهيمنة الأميركية بقدر ما كان ترنيمة مديح لجميع القوى الصاعدة الأخرى التي كانت تشكل الجغرافيا السياسية بشكل متزايد.
وكان من الصعب دحض أطروحته المركزية. لقد اختفى العالم الثنائي القطب. ولم يعد من الممكن الدفاع عن عالم التفوق الأميركي أحادي القطب. كان العالم متعدد الأقطاب ينهض مثل طائر فينيق، على الرغم من أن العالم القديم لم يكن قد تحول بعد إلى رماد، وأن الطائر الجديد كان ما يزال في مهده.
ثم حدث شيء غريب. بدأت "التعددية القطبية" تتخذ شكلاً مختلفًا تمامًا بعد أن بدأت روسيا تدخلاتها المتسلسلة في أوكرانيا في العام 2014. وما كان ذات يوم ترياقًا قويًا لغطرسة عبر-الأطلسي وادعاءات الشمال العالمي أصبح شيئًا آخر مختلفًا تمامًا: أصبح غطاءً للهجمات على القيم العالمية.
وبدلاً من حصول القوى الجديدة على مقعد على الطاولة للمساعدة على وضع قواعد عالمية جديدة، أخذ السلطويون من مختلف المشارب يستحضرون التعددية القطبية لتفكيك الطاولة من أجل الحطب، ويلقون بالقواعد من النافذة لصالح القومية والاستثنائية الحصرية.
يصف أولئك الذين يريدون التقليل من شأن الحرب الحالية في أوكرانيا هذه الحرب بأنها صراع إقليمي حول مصير بعض المتحدثين بالروسية العالقين بين دولتين. وعلى النقيض من ذلك، يقوم أولئك الذين يريدون الرفع من أهمية الحرب بتصويرها على أنها مواجهة بين "الشرق" و"الغرب".
لكن الحقيقة هي أن أوكرانيا تقع في القلب من شيء أبعد مدى من كل ذلك. لقد أصبحت الحرب هناك لحظة حاسمة في السعي إلى جلب نظام عالمي جديد.
الفلسفة الروسية الجديدة
كان أحد خطوط القسمة القديمة في التفكير الروسي يضع أولئك الذين يعتنقون الغرب (المستغربون) ضد أولئك الذين يدافعون عن المزيد من التأثيرات المحلية (السلافوفيليون). وقد أعادت نسخة محدثة من تلك المواجهة صياغة المتشككين في "الغرب" لتضعهم في دور أولئك الذين يعتقدون أن القيم العالمية -المعروفة باسم "القيم الليبرالية" أو الثقافة المعولمة- ستقوم بتحويل روسيا بطرق خبيثة.
وهكذا، أصبحت "لا-ليبرالية" الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تستهدف مجموعة من الحركات التقدمية: النسوية، وحقوق المثليين، والعلمانية. ويريد بوتين وأتباعه من سلافيي العصر الحديث العودة إلى عالم ما قبل العولمة، حيث الدول ذات السيادة التي تتمتع بسلطة الحكم الحصرية على ما يحدث داخل حدودها. وما يعنيه ذلك من الناحية العملية كان واضحًا مؤخرًا عندما جرّمت الحكومة الروسية فعليًا المتحولين جنسيًا وحظرتهم.
في العام 2017، كتبت إيلينا تشيبانكوفا في مجلة "شؤون ما بعد الاتحاد السوفياتي": "أصبح الترتيب العالمي متعدد الأقطاب أحد أهم جوانب القوة الناعمة لروسيا في الساحة العالمية وأداة مهمة للحفاظ على نفوذها الدولي. منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، تنشر روسيا أفكار الخصوصية الحضارية دفاعًا عن سلامتها الإقليمية والسياسية، في محاولة للحد من تقدم الديمقراطية العالمية والمصالح الاقتصادية المصاحبة التي تستفيد منها أطراف ثالثة".
هذه التعددية القطبية تروق لزعماء غير ليبراليين آخرين مثل فيكتور أوربان في المجر، الذي لديه علاقات خاصة به مع "أحادية قطبية" الاتحاد الأوروبي. كما ينجذب أعضاء آخرون من اليمين المتطرف في أوروبا، الذين يريدون أن تنحرف بلدانهم بعيدًا عن الإجماع الأوروبي بشأن الحقوق والمسؤوليات، نحو خطاب روسيا عن "تعدد الأقطاب".
لكن نشر بوتن الاستراتيجي للتعددية القطبية يستهدف في المقام الأول الجنوب العالمي. وهنا، تعتمد روسيا على الإرث السوفياتي القديم المتمثل في دعم النضالات المناهضة للاستعمار والحركات المناهضة للغرب. وقد اندمج الآن الخطاب القديم عن تقرير المصير مع التأكيد الجديد على السيادة الوطنية. ولا تهتم روسيا بما تفعله أي دولة أخرى داخل حدودها طالما أتثبتت أنها حليف جيوسياسي أو عميل أو شريك تجاري مفيد.
كما يُلبس الكرملين هذه الحجج لغة "حضارية" -روسيا والصين والهند وغيرها ليست مجرد قوى عظمى، ولكنها حضارات قوية تمتد على مدى قرون إن لم يكن آلاف السنين- كما لو كان ذلك يضفي عظمة تاريخية على طموحات قومية صغيرة الأفق، كارهة للنساء والمثليين والمتحولين جنسيًا.
هذا التركيز على مناطق النفوذ الحضارية يعمل بشكل جيد بالنسبة للصين في عهد شي، والهند في عهد مودي، وسورية تحت حكم الأسد، وجنوب أفريقيا في عهد رامافوسا، والبرازيل تحت زعامة بولسونارو، ونيكاراغوا تحت حكم أورتيغا. وهي الطريقة التي عمل بها الاتحاد السوفياتي، على الرغم من الانحرافات عن النظرية الماركسية. وقد اعتمدت الولايات المتحدة أيضًا بشدة على هذا المبدأ لتبرير مناطق النفوذ، خاصة في عصر "السياسة الواقعية" قبل أن تعقِّد حقوق الإنسان الصورة.
كما تقول الناشطة النسوية الماركسية والكاتبة كافيتا كريشنان، "أصبحت التعددية القطبية حجر الزاوية في اللغة المشتركة للفاشيات العالمية والاستبداد. إنها صرخة تحشيد للطغاة، تعمل على إلباس حربهم على الديمقراطية لتظهر في هيئة حرب على الإمبريالية.
ويتم تمكين نشر التعددية القطبية لإخفاء الاستبداد وإضفاء الشرعية عليه، بقدر كبير من خلال التأييد الرنان من اليسار العالمي للتعددية القطبية كتعبير مرحب به عن الديمقراطية المناهضة للإمبريالية في العلاقات الدولية".
تعرَّف إذن على التعددية القطبية الجديدة: مكان رائع للمتطرفين من اليمين واليسار ليتشاركوه ويتعانقوا فيه.
اليسار يلتقي اليمين
اعتدتُ أن أسخر من قول الليبرالية القديمة الكستنائية بأن الطيف السياسي ينحني عند النهايات بطريقة يندمج فيها أقصى اليسار بأقصى اليمين. وأصررت بدلاً من ذلك على أن العالم الأيديولوجي مسطح، وأن أولئك الذين ركضوا إلى أقصى الطرفين سقطوا من على حوافهم في هاوياتهم المنفصلة الخاصة.
لكنني الآن لم أعد متأكدًا. في العقد الماضي، حدث ارتفاع مقلق في التحالفات بين الأحمر والبني، مثل "حركة الخمس نجوم" التي تعاونت مع "رابطة الدوري" في إيطاليا أو "حركة الوقوف" المناهضة للمهاجرين التي انفصلت عن حزب اليسار الألماني.
وفي الولايات المتحدة، صوت 12 في المائة من أولئك الذين دعموا بيرني ساندرز في الانتخابات التمهيدية للعام 2016 لصالح دونالد ترامب في الانتخابات العامة. ويمكن التقليل من شأن ذلك باعتباره خصوصية لنظام الحزبين في أميركا وافتقاره المحبط إلى البدائل.
لكن هذه التزاوجات الغريبة استمرت في الظهور في أعقاب غزو روسيا لأوكرانيا العام الماضي. في شباط (فبراير)، في احتجاج لتجمع "الغضب ضد آلة الحرب" في واشنطن على دعم الولايات المتحدة لأوكرانيا، ظهر التحرري الرجعي رون بول، ونصير "حزب الخضر" القوي جيل شتاين، و"حزب الشعب" الذي يُفترض أنه يساري -وهو حدث روج له بحماس تاكر كارلسون.
وكان هناك ماكس بلومنتال، الذي يدير مدونة "المنطقة الرمادية" الإلكترونية التي يفترض أنها يسارية، وهو يدلي بشهادته في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بدعوة من البعثة الروسية في نيويورك. وليس من المستغرب أن يكرر هذا "الصحفي" مثل ببغاء الدعاية الروسية في خطابه.
لكن الذي تبين هو أن "التعددية القطبية" هي أرض التقاء أكثر فائدة لليسار واليمين. لطالما رحب التقدميون منذ وقت طويل بإعادة توزيع السلطة على المستوى الجيوسياسي. لكن الميل المؤسف لدى بعض اليساريين إلى تبرير الاستبداد بما أنه معاد للولايات المتحدة أو معاد للغرب يتم دفعه الآن إلى إطار هذه التعددية القطبية الجديدة تحت غطاء الدفاع المتحمس عن السيادة، واللا-ليبرالية، ومناهضة العولمة.
يمكن رؤية هذا الاتجاه لدى جماعة مفهوم "العالم الثالث" في كتابات فيجاي براشاد و"معهد ثلاثي القارات"، بتضخيمها للروايات الروسية والصينية الرسمية. أو في أحدث كتاب من الهراء لفادي لاما، "لماذا لا يستطيع الغرب الفوز"، بمدحه لفكرة "العالم العادل ذي السيادة" التي تطرحها روسيا والصين وإيران ضد ضراوة "الإمبراطورية".
من المدهش رؤية الألعاب البهلوانية الفكرية التي يلجأ إليها منتقدو الإمبريالية من أجل تبرئة الإمبريالية الروسية، وانتهاكها الواضح لسيادة أوكرانيا، واستخدامها التعددية القطبية كوسيلة لتعزيز سلطتها. في العصور السابقة، انخرط بعض اليساريين في ألعاب مماثلة من المهمات الأيديولوجية لتبرير الغزوات السوفياتية (في المجر، وتشيكوسلوفاكيا وأفغانستان) أو الجهود الصينية لهضم التبت. ولكن، كانت الصين والاتحاد السوفياتي على الأقل نظامين يساريين مفترضين، لذلك كانت هذه الدفاعات مفهومة -حتى لو أنها بغيضة.
لكن روسيا اليوم، تحت قيادة فلاديمير بوتن، هي أقرب شيء إلى الفاشية التي عانت منها الدولة الفقيرة المظلومة خلال القرن الماضي. في هروبه من الليبرالية، ضم اليسار المتطرف الصفوف مع الجهات الفاعلة على الجانب الآخر من الطيف. وقد يبرر هؤلاء المناهضون للإمبريالية الذين لديهم عصابات على أعينهم تحالفاتهم بأنها تكتيكية صرفة.
لكنّ هناك تاريخًا أطول بكثير من مغازلة المستبدين -ستالين وماو وموغابي وكاسترو.
وسواء كان ذلك بتغريدة متملقة لدعم انعزالية ترامب الزائفة، أو محاولة متوترة لتبرير غزو بوتين لأوكرانيا كرد معقول على توسع الناتو، يجب على اليسار أن يتأمل فشله في أن يكون منصفًا ونزيها في معاداته للإمبريالية.
مستقبل التعددية القطبية
تعني الحرب في أوكرانيا موت التعددية القطبية. هكذا يجادل أولئك الذين يعتقدون بأن الحرب همشت روسيا، وأضعفت أوروبا، وزادت من تهميش الجنوب العالمي في حين عززت مكانة الولايات المتحدة والصين.
وقد استفادت كل من واشنطن وبكين بالفعل على حساب وكلائهما، حيث تقوم الأولى بتزويد أوروبا بالغاز وتشتري الأخيرة طاقة مخفضة من روسيا. وإذا حدق المرء في السياسة العالمية، سيبدو كما لو أن الولايات المتحدة والصين هما اللتان تتخذان القرارات. ماتت ثنائية القطبية. تعيش ثنائية القطبية!
ونستطيع أن نسوق حجة قوية بالقدر نفسه بأن الحرب عجلت بحتمية قدوم التعددية القطبية. لقد تآكلت بشدة قدرة الولايات المتحدة والصين على تحديد النتائج والتحكم بها خارج حدودهما. الحرب في أوكرانيا تمضي. وقد وجدت أوروبا بدائل للطاقة الروسية (شكرًا لواشنطن والدوحة) وأخذت زمام المبادرة في رسم مستقبل خال من الكربون. وفي الوقت نفسه، رفض الجنوب العالمي تأييد الشرق أو الغرب في هذا الصراع.
وأصبحت الجيوسياسات غير متوقعة على نحو متزايد. وقد ترغب الولايات المتحدة في العودة إلى الأيام الخوالي للأحادية القطبية، كما يجادل ستيفن والت، لكنها لا تستطيع ذلك.
إذن، هل التعددية القطبية في صعود أم أنها تتضاءل؟ سوف يعتمد الكثير على أوكرانيا.
إذا فشلت أوكرانيا في طرد الغزاة الروس، فسوف تكون هذه سابقة مشؤومة للقانون الدولي. فالمخالف الذي يفلت من العقاب يكون بمثابة رمز قوي لجميع منتهكي القانون الحاليين والمحتملين. ولا يقتصر الأمر على التدخلات غير القانونية عبر الحدود فحسب، بل يشمل أيضًا انتهاكات حقوق الإنسان -بل وحتى الفشل في تحقيق أهداف الحد من انبعاثات الكربون. وسوف تواجه أوكرانيا نفسها، المتعثرة اقتصاديًا والتي ليست لها حدود واضحة، صعوبة أكبر في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والعمل على الساحة الدولية.
من ناحية أخرى، إذا فازت أوكرانيا، فسوف توجه ضربة قوية للفضاء الأوروبي المتوسع وضد نزعة الافتراس البوتينية. وإضافة إلى ذلك، إذا تطورت روسيا من دولة نفطية استبدادية إلى شيء يقترب من الديمقراطية مع الالتزام بالطاقة النظيفة، فسوف يشكل ذلك مثالاً قوياً للحركات التي تكافح ضد دكتاتوريي الطاقة القذرة في جميع أنحاء العالم.
على الرغم من أن الصين والولايات المتحدة هما أهم اللاعبين الجيوسياسيين على المسرح العالمي على الإطلاق في الوقت الحالي، يظل من الممكن أن تكون هذه مجرد لحظة انتقالية. ثمة الهند التي هي الآن الدولة الأكثر عددًا للسكان في العالم، ومن المتوقع أن تصبح ثالث أكبر اقتصاد بحلول نهاية العقد. ويعمل الاتحاد الأوروبي على وضع المعيار لاقتصاد جديد خفيف الكربون. ويمتلك الجنوب العالمي الكثير من ثروة الموارد اللازمة للانتقال إلى الطاقة النظيفة، والتي (ربما) يمكنه الاستفادة منها للحصول على نفوذ عالمي أكبر.
إن المخاطر عالية في أوكرانيا. وليس الذي على المحك مجرد السلامة الإقليمية أو حوالي 30.000 ميل مربع من الأرض المحتلة فحسب. إن المعركة تدور حول مسار الحكم الدولي. إنها، في نهاية المطاف، خيار بين الفوضى العالمية والمجتمع العالمي.
*جون فيفر John Feffer: مدير موقع "فورين بوليسي إن فوكوس". كتابه الأخير هو "اليمين في العالم: الشبكات العالمية لليمين المتطرف واستجابة اليسار" Right Across the World: The Global Networking of the Far-Right and the Left Response.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Ukraine and the World Order
اقرأ أيضا في ترجمات:
حرب أوكرانيا: عالم جديد متعدد الأقطاب آخذ في الظهور