كان من الممكن أن تنجح عملية أوسلو لو أن إسرائيل بذلت جهدا لجعل شروطها مقبولة لدى القيادة الفلسطينية التي أظهرت استعدادها للتوصل إلى تسوية، في وقت كانت تتمتع فيه بالشرعية الكافية للتوصل إلى اتفاق. لكن الأمر لم يكن كذلك، بل على العكس تماما، حيث واصلت إسرائيل مشروعها الاستعماري من دون أن تواجه الكثير من العقبات. ومع ذلك، يمكن لآفاق عالمية جديدة أن تغير الوضع وتمنح فرصة للفلسطينيين من جديد.
* * *
صادف يوم 13 أيلول (سبتمبر) 2023 الذكرى الثلاثين لتوقيع "اتفاقية أوسلو" بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض. وسبقت هذه اللحظة التاريخية من أيلول (سبتمبر) 1993 أشهر من دبلوماسية الظل المكثفة تحت رعاية النرويج، أسفرت عن سلسلة من الاتفاقيات المعروفة باسم "اتفاقيات أوسلو"، التي نصت على إنشاء سلطة فلسطينية مؤقتة تتمتع بالحكم الذاتي في جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإعادة تصنيف هذه الأراضي إلى مناطق "أ، ب، ج"، التي ما تزال قائمة حتى اليوم، على الأقل على الورق.
ولكن، سيتم في أيلول (سبتمبر) 2023 تجاهل ذكرى اتفاقية أوسلو أكثر من الاحتفال بها. ومصير هذه العملية أن يتم تدريسها باعتبارها نموذجا لفشل "عملية السلام". فبعد أقل من 26 شهرا من تلك المصافحة المفعمة بالأمل بين رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، اغتيل رابين على يد متطرف يهودي خلال تجمع من أجل السلام في الساحة المركزية في تل أبيب. وبعد عقد من الزمن، رحل عرفات عن عالم الأحياء، ويرجح أن موته لم يكن طبيعيا بعد أن حاصرته القوات الإسرائيلية في "المقاطعة" برام الله لمدة 34 شهرا تقريبا.
باتت الظروف على الأرض اليوم أقل ملاءمة للسلام مما كانت عليه قبل 30 عاما. فقد تضاعف عدد المستوطنين الإسرائيليين غير القانونيين المقيمين في الضفة الغربية المحتلة أربع مرات خلال هذه الفترة. وفي المرة الوحيدة التي سحبت فيها إسرائيل المستوطنين (في 2005)، تم ذلك بقرار أحادي الجانب، من دون مفاوضات وخارج إطار "عملية أوسلو للسلام".
من الانتفاضة إلى إمكانية التوصل إلى اتفاق
لقد انتهت اليوم الحقبة التي سمحت بظهور "أوسلو"، سواء على مستوى خصوصيات السياقات الإسرائيلية الفلسطينية المحلية، أو على مستوى الجغرافيا السياسية الإقليمية. وقد توافقت "عملية أوسلو" مع حقبة انتهت. ومن الضروري لكل من يرغب في تصور مستقبل فلسطيني إسرائيلي مختلف وتطوير استراتيجيات لتحقيقه، أن يفهم السياقات آنذاك والآن.
على المستوى المحلي، تميزت السنوات التي سبقت اتفاقية أوسلو مباشرة بانتفاضة شعبية فلسطينية كبرى في الأراضي المحتلة في الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية (التي كانت في ذلك الحين تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ عقدين من الزمن). وانخرطت الفصائل السياسية الفلسطينية السرية والحركات النسائية والنقابات العمالية وقطاعات كبيرة من المجتمع المدني في سلسلة من الإضرابات والاحتجاجات والعصيان المدني والاشتباكات غير المسلحة إلى حد كبير ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي وإدارته العسكرية. وكان الرد الإسرائيلي وحشيا، ولكنه شكل أيضا إشارة إنذار. إذا كان استمرار الاحتلال لمدة عقدين من الزمن ممكنا من دون أن تدفع إسرائيل الثمن، فإن الأمر لم يعد كذلك مع الانتفاضة الأولى. وعلى المستوى الدولي، وجد الإسرائيليون أنفسهم في مركز اهتمام غير مسبوق وتحت ضغط غير عادي. لكن الضغوط مورست أيضا على منظمة التحرير الفلسطينية، التي كان مقرها في تونس بعد نفيها من لبنان، والتي بدا أن قيادتها الخارجية بدأت تتراجع ميدانيا لصالح الفصائل من داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
تفاقم الوضع الحرج لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية بسبب حرب الخليج الأولى التي شنتها الولايات المتحدة في العام 1991 بعد غزو العراق للكويت، بعد أن اختارت القيادة دعم صدام حسين ضد تحالف ضم العديد من الدول العربية. كما أن دعم العديد من الدول العربية لواشنطن شكل أيضا، إلى حد ما، ضغطا على إسرائيل (إذ كانت الدول العربية تطالب آنذاك بإحراز تقدم في ملف القضية الفلسطينية)، وأدى إلى إطلاق عملية سلام متعددة الأطراف في مدريد. وقادت المحادثات الفلسطينية الإسرائيلية، من الجانب الفلسطيني، قيادات من الداخل، بسبب إصرار إسرائيل على استبعاد منظمة التحرير الفلسطينية رسميا (في الواقع، كان وفد فلسطيني-أردني مختلط هو الذي تفاوض مع الإسرائيليين في مدريد). وقد استفاد هؤلاء القادة الفلسطينيون، الذين كانت لهم دراية جيدة بنظام الاحتلال الإسرائيلي والحرمان من الحقوق، من زخم الانتفاضة، وأثبتوا أنهم مفاوضون أشداء يسعون إلى تحقيق تقدم مهم. ورأت كل من منظمة التحرير الفلسطينية -التي وجدت نفسها مهمشة- وإسرائيل المحمومة، فائدة في استكشاف مساحة للمحادثات تسمح بالالتفاف على الإطار القائم.
قبل ذلك ببضع سنوات، كانت منظمة التحرير الفلسطينية قد أقامت علاقات مع الولايات المتحدة، وأعلنت رسميا تأييدها لحل الدولتين (خلال اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر في العام 1988). وقررت أنه من الممكن التوصل إلى اتفاق يسمح بمعالجة المسائل التي أثارتها حرب حزيران (يونيو) 1967، فضلا عن الاحتلال (وبالتالي الحصول على دولة فلسطينية على 22 في المائة فقط من الأراضي)، مع استبعاد -أو على الأقل تأجيل- القضايا التي أثارتها نكبة العام 1948 وسلب الأراضي وتقاسمها. وكان اللاجئون الفلسطينيون هم الذين سيدفعون ثمن هذه المحاولة لتقليص معايير الصراع من خلال التركيز على 1967 على حساب 1948. وكثيرا ما عبروا عن معارضتهم بقوة.
بدا إذن، ولو لفترة وجيزة، أن هناك معسكرا وقيادة سياسية في إسرائيل مستعدة للتوصل إلى اتفاق بشأن قضايا نفسها العام 1967 -أي الحدود والأراضي في المقام الأول. وأسفرت انتخابات العام 1992 في إسرائيل عن تشكيل حكومة بقيادة رابين، مكونة من حزب العمل وحليفه اليساري "ميرتس"، بدعم من الحزبين اللذين كانا يمثلان آنذاك المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل (وانضم الحزب الأرثوذكسي المتطرف "شاس" رسميا بعد ذلك إلى التحالف). وكان احتمال التوصل إلى اتفاق فلسطيني إسرائيلي آخذا في الظهور، لكنه بالكاد كان يرى في الأفق.
لحظة مناسبة
كان السياق الدولي في تلك الحقبة مختلفا بالقدر نفسه. وبدا أن زوال الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة يبشران بعصر من الأحادية القطبية غير المسبوقة. ومن الأمثلة على ذلك، نجاح أميركا في حرب الخليج المذكورة أعلاه والتحالف الذي تمكنت من تشكيله. وهكذا بدت قدرة القوة الأميركية على التوصل إلى اتفاق سلام في الشرق الأوسط أمرا لا يقبل الجدل، حتى ولو لم يكن الأمر كذلك تماما.
ولكن، في غضون عقد من الزمن، أعلنت الولايات المتحدة "الحرب العالمية على الإرهاب"، التي أدت إلى تدخل عسكري ثانٍ طويل الأمد ومدمر لها في العراق (وكذلك في أفغانستان)، وإلى تصور مبالغ فيه بطريقة فظة لهذا التهديد الذي أرهق الأميركيين، وأدى إلى تقويض قوتهم ومصداقيتهم، ما أثار رفضا هائلا، حتى في الولايات المتحدة نفسها، لمثل هذه التدخلات الخارجية.
إذا كانت هناك فرصة سانحة للحظة أوسلو، فقد كانت في ذلك العقد، في التسعينيات -وقد تم فعليا تحديد تاريخ لانتهاء التدابير المؤقتة التي تم وضعها في إطار عملية أوسلو ليكون أيار (مايو) 1999. لكن الولايات المتحدة فشلت في تأمين التنازلات الضرورية من طرف إسرائيل، حتى بالنسبة لاتفاق الحد الأدنى على أساس حدود العام 1967، والذي كان سيفيد الجانب الإسرائيلي إلى حد كبير. ويمكن التساؤل عما إذا كانت السياسة الأميركية تتوفر على القدرة الكافية لتنفيذ هذه المهمة، أو ما إذا كانت الإدارات الأميركية المتعاقبة قد حاولت القيام بذلك.
من المؤكد أن القيادة الفلسطينية ليست خالية من اللوم. وتميل الانتقادات الموجهة إليها إلى التركيز على تورطها في أعمال العنف وسوء إدارتها للمؤسسات. لا شك أن الهجمات التي استهدفت المدنيين الإسرائيليين كانت سببا في تقويض جهود السلام، وكانت هذه الهجمات في بداية الأمر تأتي في أعقاب أعمال العدوان الإسرائيلية (مثل قتل باروخ غولدشتاين للمصلين المسلمين في المسجد الإبراهيمي في الخليل في شباط/ فبراير 1994). لكن المقاومة المسلحة سمة مميزة لأي نضال من أجل التحرير، والفلسطينيون ليسوا استثناء. إن افتراض أن أفعال المقاومة ستنتهي على الرغم من استمرار الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنات كان في أحسن الأحوال إحدى "سذاجات" أوسلو، وفي أسوأ الأحوال فخا معدا مسبقا. ولعل أكبر فشل لمنظمة التحرير الفلسطينية يكمن في سوء تفسيرها لنوايا الآخرين والسياق الجيوسياسي والإقليمي والمحلي، وهو عيب ما يزال قائما بطريقة مربكة حتى اليوم.
ضمان مصالح المحتل
إن الميل إلى إسناد المسؤولية بالتساوي للطرفين ليس خاطئا وخارج السياق فحسب، بل إنه يغفل بشكل أكثر جوهرية ما هو أساسي. فقد استندت "أوسلو" إلى شروط مناسبة لإسرائيل، التي كانت هي التي حددت هذه الشروط إلى حد كبير. وكان من شأن ترسيخ هذه الفرضية أن يكون إنجازا رائعا للمشروع الصهيوني. كان من شأنه أن يسمح لإسرائيل بالحصول على اعتراف دولي لا جدال فيه بالطبيعة العرقية-القومية لدولتها على مساحة 78 في المائة من الأرض الفلسطينية، إضافة إلى تخلي الحركة الوطنية الفلسطينية عن حقوق اللاجئين، وبالتالي إلغاء مطالبها المتعلقة بتهجير الفلسطينيين وسلب ممتلكاتهم خلال النكبة. وهذا حتى قبل النظر في مطالب إسرائيل الأكثر صرامة لإعادة التوزيع السياسي المحتمل في القدس والبلدة القديمة، والترتيبات الأمنية ونزع سلاح الدولة الفلسطينية، وكلها كانت جزءا من سلسلة مطالب من شأنها أن تحرم ما تسمى بـ"الدولة" من أي وضع سيادي ذي معنى.
على الرغم من كل ما قيل حول إخفاقات أوسلو، قد تكفي ملاحظة واحدة: الطريقة التي كان من الممكن أن تنجح بها عملية أوسلو، باعتبارها بناء إسرائيليا، هي أن تبذل إسرائيل جهدا إضافيا لجعل شروط التسوية مقبولة بحد أدنى للقيادة الفلسطينية، التي أظهرت استعدادها للتوصل إلى تسوية في وقت كانت تتمتع فيه بالشرعية الكافية للتوصل إلى اتفاق.
ما الذي كان يعنيه هذا من حيث التفاوض؟ تعويض زائد على تبادل الأراضي على سبيل المثال؛ تقسيم حقيقي وتشارك داخل القدس والبلدة القديمة؛ التخلي عن مطالب أمنية غير ملائمة وغيرها؛ استخدام لغة تصالحية؛ ودفع تعويضات واعتراف باللاجئين -قد تكون هذه التفاصيل أقل أهمية من المبدأ ذاته. لكن الأهم من ذلك هو أنه لم يتم اختبارها أبدا.
من الناحية الموضوعية، أخذت إسرائيل قبل الأوان وبشكل عشوائي الاستعداد الظاهر للفلسطينيين للتوصل إلى تسوية كأمر مكتسب، وأصرت على كسب تنازلات لا نهاية لها حتى لا تكون هناك عودة إلى الوراء. ويمكن النظر إلى خطوات رابين الأولى على أنها ارتجال قصير الأمد لإدارة ما اعتبره بيئة حساسة (ربما تبنى عرفات أيضا مناورة تكتيكية). وكان نجاح هذا التحدي الذي ينطبق أيضا على الحركة الصهيونية، هو معرفة ما إذا كان من الممكن تحقيق توازن استراتيجي مع الفلسطينيين، أي التوصل إلى اتفاق من حيث المبدأ والقبول. ولم يكن الحال كذلك. فقد استمر بنيامين نتنياهو على النهج نفسه، حتى عندما انخرط في مفاوضات سلام زائفة، وادعى أنه ثبت أنه كان على حق. كان يبدو أن الضغط قد تبدد.
تلك هي، باختصار، قصة أوسلو. لقد كانت الصهيونية راسخة لدرجة أنها لم تكن لتقبل بأي تسوية، ولا بإدماج مواقف وجودية حول قضية فلسطين. وفي هذا الصدد، سيكون من الخطأ الاستقراء من معاهدتي السلام اللتين أبرمتها إسرائيل مع الأردن ومصر أنها ستتحلى بالحكمة في علاقتها مع الفلسطينيين.
بعد مرور عشر سنوات على توقيع اتفاقية أوسلو، كانت اللعبة قد انتهت. انسحب آرييل شارون من غزة في صيف العام 2005 معلنا صراحة عن اعتزامه تحصين وجوده في الضفة الغربية ووضع أي احتمال للسلام مع الفلسطينيين في "حوض من الفورمالين"، كما أعلن ذلك جهارا كبير مستشاريه ومفاوضيه، دوف فايسغلاس. وعند لحظة وصول إيهود أولمرت إلى طاولة المفاوضات -وقد ادعى مرارا وتكرارا أنه كان الأقرب إلى التوصل إلى اتفاق- كان الإسرائيليون يزعمون على نحو غير معقول، أن التوصل إلى اتفاق سيكون مقبولا سياسيا داخليا أو قابلا للتطبيق. أما محاورهم الفلسطيني، فلم يكن قادرا على ادعاء أنه يتمتع بسلطة كافية. لم تعد الحقائق على الأرض اليوم تشبه بأي حال تلك التي سادت في بداية حقبة أوسلو، بل وتغيرت أيضا السياقات الجيوسياسية المحلية والعالمية إلى حد جعل من غير الممكن التعرف عليها.
لغة السلام في خدمة اللاشرعية
من المثير للدهشة أن العديد من الهياكل واللغة المشتركة لأوسلو ما تزال قائمة (فكرة المناطق أ، ب، ج، والسلطة الفلسطينية، والتعاون الأمني). وإذا تابعنا التصريحات التي صدرت خلال مؤتمرات القمة بين الأطراف، التي ما تزال تعقد تحت رعاية "عملية السلام"، أو الخطب التي لا نهاية لها للقادة السياسيين الأميركيين وغيرهم، فإننا سنجد التعويذة التي تكاد تكون طقوسية لنصوص وأساطير هذه العملية: نداءات لاستئناف المفاوضات، وتدابير بناء الثقة؛ تحسينات اقتصادية في ظل الاحتلال؛ وبطبيعة الحال، الرغبة الدائمة في تطبيق "حل الدولتين". ولكن لا شيء من هذا يشبه الواقع على الأرض. لقد انكشفت الهاوية المتسعة، إنها "عملية سلام" بوتيمكين (أي زائفة)، خدعة تظهر كل علامات فترة خلو العرش المرضية التي أشار إليها أنطونيو غرامشي(1). ويمكن إدراج كل كلمات أوسلو في نص المتحدث باسم وزارة الخارجية في واشنطن، الخالية من أي معنى، وهي مجرد ميت/حي. وتشكل حقيقة استمرار هذه المهزلة شهادة على الجمود والراحة التي تقدمها لإسرائيل وضامنها الأميركي. وما أصبح لدينا الآن هو لغة السلام في خدمة أعمال غير قانونية وحرمان من الحقوق وفصل العنصري. هذا هو الإرث المحزن لأوسلو بعد مرور ثلاثين عاما. لكن هذا لا يهم من نواح كثيرة، لأن لغة السلام تخسر في معركة الأفكار. إننا نعيش في عصر مختلف بالنسبة للإسرائيليين والفلسطينيين -ولكن أيضا بالنسبة إلى الجغرافيا السياسية العالمية.
من أكثر الظواهر إثارة للاهتمام ما يحدث في الخطاب السياسي الإسرائيلي والمؤسسات السياسية. لم يعد لمعسكر أوسلو وجود. كان لدى حزب العمل وحزب "ميرتس" 56 عضوا من أصل 120 في البرلمان الإسرائيلي في الائتلاف الذي قاده إسحاق رابين في العام 1992. وقد تقلص هذا العدد إلى أربعة مقاعد فقط (أربعة لحزب العمل، وصفر لميرتس). وتمارَس السياسة البرلمانية الصهيونية الآن بشكل أساسي على الأرض، بين الترسيخ التدريجي المستمر للاحتلال وتسارع حركة "النصر الفوري" نحو المزيد من سلب الأراضي واستئناف التطهير العرقي (والخطاب السياسي الإسرائيلي مليء بالتهديدات بحدوث نكبة ثانية). إنها معركة بين المؤيدين الفخورين للفصل العنصري وأولئك الذين ينكرونه بينما يديمون الظروف اللازمة لتطويره. لقد خلق فشل أوسلو الظروف التي سمح فيها التفوق اليهودي المسيطر على الديمقراطية بنشوء قوة داخل الحكومة يمثلها بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير وجزء كبير من حزب الليكود. لذلك لا ينبغي أن يتفاجأ أحد بأن ما يسمى بالاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية التي تعارض أجندة الإصلاح القضائي للائتلاف الذي يقوده نتنياهو، تجنبت بشكل واضح معالجة التحدي الأكبر للديمقراطية الذي يفرضه نظام التمييز العنصري والاحتلال الذي يعاني منه الفلسطينيون.
جريمة الفصل العنصري، تواطؤ مشترك؟
كما أظهرت أخيرا رسالة من مجموعة من كبار الباحثين الإسرائيليين والأجانب بعنوان "الفيل في الغرفة"، فإنه "لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية لليهود في إسرائيل طالما استمر الفلسطينيون في العيش في ظل نظام الفصل العنصري".
إن راية المعارضة الحقيقية والسلام تحملها الأصوات غير البرلمانية شبه المنشقة للكتلة المناهضة للاحتلال وللفصل العنصري بشكل متزايد في المجتمع المدني الإسرائيلي-اليهودي والفلسطيني. وما تزال "عملية السلام" مستمرة في الخطاب الإسرائيلي، لكن القوى السياسية البرلمانية الداعمة لها انحازت إلى الواقع، وهي لا تتجاوز إدارة الفلسطينيين والسيطرة عليهم وسلب ممتلكاتهم. لم يعمد لـ"عملية السلام" كممارسة للمساواة، واستعادة الحقوق -ولنجرؤ على قول، والسلام- سوى عدد قليل من الأنصار.
ولا ينبغي الاندهاش أيضا من الاعتراف المتزايد بهذا الواقع باعتباره يشكل قانونا جريمة فصل عنصري بموجب القانون الدولي. وهذا ما لا تلاحظه المنظمات الفلسطينية وحدها، بل وأيضا منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية الرئيسية، خاصة "بتسيلم" و"يش دين" و"عدالة"، ومنذ 2021-2022 "هيومن رايتس ووتش" و"منظمة العفو الدولية". وهي قضية من المرجح أن تحال إلى محكمة العدل الدولية بمجرد أن تحيل إليها الجمعية العامة للأمم المتحدة مسألة احتلال إسرائيل المطول. وقد قدمت دول عدة ملاحظات إلى المحكمة حول الأساس المعتمد في القانون الدولي لتحديد ما إذا كانت دولة ما تمارس الفصل العنصري.
ولم تسلم السياسة والتنظيم الفلسطينيان من كل هذا. فقد وضعت الحقائق على أرض الواقع وإعادة التأطير المكاني والمفاهيمي المؤسسات الفلسطينية للحكم الذاتي التي أنشأتها أوسلو في وضع هش بشكل خاص. لم تشهد هذه المؤسسات انتخابات منذ 17 عاما، والتي كثيرا ما تأجيلها أو إلغاؤها. وقد فقدت هذه المؤسسات منذ فترة طويلة أهميتها السياسية لدى الفلسطينيين وفقدت مصداقيتها وصفتها التمثيلية. والأدهى من كل ذلك هو أن كل هذا يجري في إطار نظام الفصل العنصري. ولذلك يكفي أن نمضي قدما في هذا التحليل لنستنتج أن السلطة الفلسطينية هي جزء من هياكل الفصل العنصري، كشكل من أشكال الإدارة الذاتية الفلسطينية "للبانتوستانات" في خدمة نظام الفصل العنصري الأشمل.
ويقع التعاون الأمني على قمة سلم هذا الاستقطاب، وهو محل رفض شعبي كبير لدى الفلسطينيين، ويواجه تحديا متزايدا من قبل قوى المقاومة الجديدة من جيل الشباب.
تظل منظمة التحرير الفلسطينية هي الهيكل الوطني الفلسطيني الأعلى، على الرغم من أن السلطة الفلسطينية حلت محلها إلى حد كبير على مر السنين. وقد شخصت المنظمة نفسها الفصل العنصري بصفة رسمية، وهو ما يشكل على نحو متزايد جزءا من برنامج مرافعتها الدولية. لكن هذا التوتر لا يمكن أن يستمر مع الوقت. إن استمرار وجود السلطة الفلسطينية في تجسيدها لأوسلو، واستمرار ارتباط الهياكل المؤسسية الفلسطينية بـ"عملية السلام" ربما تكون آخر الحجارة التي ما تزال قائمة. لكنها بنية سياسية مفرغة من الجوهر، سيئة التمثيل، منقسمة وتعتمد بشكل متزايد على أدوات القمع ضد شعبها. وقد أصبح التنظيم والتعبئة حول اللجنة الوطنية لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) تتمتع الآن بتماسك سياسي أكبر وبأهمية متزايدة. كما تحرز الحجج التي تركز على إنهاء الاستعمار وحقوق اللاجئين نجاحا متزايدا.
إضعاف الهيمنة الأميركية
إذا كان السياق السياسي المحلي لا علاقة له بذلك الذي كان قائما في أوائل التسعينيات، فقد تغيرت الجغرافيا السياسية بشكل أكثر جذرية. لقد كانت الأحادية القطبية الأميركية عابرة، ونحن نعيش في عصر الاضطرابات الجيوسياسية المستمرة. فقد ظهر ما يسمى بالقوى الناشئة، وأصبحت التعددية القطبية واضحة، وصار نوع جديد من عدم الانحياز مرئيا، وكان الإعلان عن توسيع مجموعة بريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) خلال قمة جوهانسبرغ (آب/ أغسطس 2023)، أحدث مثال على هذا التطور.
أدى انسداد السياسة الوطنية الفلسطينية حتى الآن إلى تأخير تطبيق هذا التطور على الشؤون الإسرائيلية الفلسطينية. ولكن مع تآكل الحصانة الأميركية، تتآكل الحصانة الإسرائيلية أيضا. ومع تمكن الهياكل العالمية الجديدة من تأكيد نفسها، من غير المرجح ألا يتأثر الملف الفلسطيني الإسرائيلي. ولكن لا يمكن أن تحدث التغييرات بسرعة إلا عندما يتم توحيد السياسات والاستراتيجيات الفلسطينية وإعادة تجميعها وإعادة صياغتها. ولدى بعض أهم القوى في الجنوب رؤية لملف فلسطين وإسرائيل تختلف تماما عن رؤية الولايات المتحدة، سواء لأسباب تتعلق بالتاريخ الاستعماري أو الفصل العنصري، أو السياسة الداخلية أو رفض التطبيق الانتقائي للقانون الدولي الذي تمارسه واشنطن. وينطوي ذوبان الجليد في الفضاء الجيوسياسي على مخاطر ظهور اتجاهات سياسية ليست كلها إيجابية.
كانت مقاومة نموذج أوسلو مثيرة للإعجاب ولن يكون استبداله سهلا. فإسرائيل هي ذاتها قوة إقليمية، ويعتبرها الكثيرون قوة عالمية متوسطة المستوى، لديها سلاح نووي، وهي مصدِّرة للمعدات العسكرية الرائدة، وخبيرة في التكنولوجيا (وغالبا ما تكون مصدرا خطيرا للعناصر المدمرة لهذه الخبرة التكنولوجية). وهي أيضا فاعل في الجغرافيا السياسية الجديدة. لكن نظام الفصل العنصري الذي أسسته إسرائيل ليس شعبيا ويجبر سلطاتها على اتخاذ إجراءات مثيرة للمتاعب.
بدأت ملامح المسألة الإسرائيلية الفلسطينية في مرحلة ما بعد أوسلو في الظهور. ومن المرجح أنها ستندرج في إطار عالم متعدد الأقطاب، وتقوم بتحديدها أطراف غير غربية، وتتمحور على النضال من أجل المساواة بدلا من التركيز على الدفاع عن الأرض. وإذا كانت أهدافها، لحسن الحظ، تشمل تحرير الفلسطينيين من إنكار حقوقهم وحرياتهم، فإنها ستحرر أيضا اليهود الإسرائيليين من إدامة نظام عنصري غير إنساني، مدمر للروح وغير آمن في نهاية المطاف.
*دانيال ليفي: رئيس مشروع مركز أبحاث الشرق الأوسط الأميركي ومفاوض إسرائيلي سابق خلال مفاوضات أوسلو وطابا. ترجم المقال من الفرنسية حميد العربي.
هامش:
(1) نسبة الى مقطع شهير من "دفاتر السجن" لأنطونيو غرامشي: "تكمن الأزمة على وجه التحديد في حقيقة أن (النظام) القديم يحتضر والجديد لا يمكن أن يولد بعد. وفي فترة خلو العرش بين النظامين، تظهر مجموعة كبيرة ومتنوعة من الأعراض المتوحشة السقيمة".