ترجمة: علاء الدين أبو زينة
ولي نصر* - (فورين أفيرز) عدد كانون الثاني (يناير)/ شباط (فبراير) 2022
وضع مهيأ للانفجار
لا يبشر صعود رجل الدين الشيعي، مقتدى الصدر، بالخير عندما يتعلق الأمر بالسلام الطائفي في العراق. وعلى الرغم من أنه يعرض نفسه على أنه قومي، إلا أنه يساوي بين المصحلة الوطنية للعراق وحق طائفته الشيعية في حكم البلاد.
وكانت ميليشياته في طليعة الحرب الأهلية الطائفية التي اجتاحت العراق في العام 2006، وهو لا ينوي التنازل عن السلطة لتهدئة السنة. وعلى الرغم من أنه يريد تحقيق الحكم الذاتي والاستقلال عن إيران، إلا أنه سيواجه الفصائل المتنافسة في الداخل ومناورات الممالك السنية في الخليج الفارسي، الذين عارضوا سيطرة الشيعة على العراق.
ولذلك سيكون ميله هو الاعتماد على طهران.
كما تنذر الاضطرابات المتزايدة في لبنان أيضًا بعدم الاستقرار، لكنها لا تعِد بأي تقليص للنفوذ الإيراني. والفاعل السياسي المهيمن في البلاد هو حزب الله، الذي بنى قدرته العسكرية على مر السنين بدعم إيراني سخي.
وقد أدت الجماعات الشيعية اللبنانية أداءً جيدًا في الحروب ضد إسرائيل، وما تزال ترسانتها الضخمة من الصواريخ تشكل رادعًا يهدد العمل العسكري الإسرائيلي ضد إيران.
كما نجح حزب الله في نشر مقاتليه نيابة عن حلفاء إيران في جميع أنحاء العالم العربي، ولا سيما في العراق وسورية، حتى أصبح لاعباً أكثر أهمية ولا غنى عنه بالنسبة لطهران.
لكن حزب الله يظل أيضا قوة سياسية في لبنان، ويشارك في التسبب بالأزمة الاقتصادية التي أدت إلى تآكل الدولة والمجتمع. ولطالما استنكر المجتمعان المسيحي والسني في البلاد ولاءات حزب الله المتجهة إلى إيران وإصراره على العمل كدولة داخل دولة.
ويلقي عدد متزايد من اللبنانيين باللوم على المجموعة في تقويض التحقيق الرسمي في الانفجار المدمر الذي وقع في مرفأ بيروت في آب (أغسطس) 2020، الذي دمر أجزاء كبيرة من المدينة أيضاً.
ولن يتخلى حزب الله عن السلطة من دون قتال. وما تزال قبضته على الطائفة الشيعية قوية، وما تزال إيران ملتزمة بدعم الحزب.
ولطالما كان لبنان عرضة لنوبات العنف، وليس من الصعب أن نرى كيف تمهد الأحداث الجارية المسرح لقدوم نوبة أخرى من الصراع الطائفي هناك.
وفي اليمن، أصبحت الحرب الأهلية حربًا بالوكالة. فمن جهة، هناك الحكومة المركزية المدعومة من السعودية. ومن جهة أخرى، هناك القبائل الحوثية التي تنحدر من شمال البلاد الذي يسيطر عليه أعضاء من الطائفة الزيدية الشيعية، والذين يتمتعون بدعم إيران.
وقد اتخذت الحرب في اليمن طابعًا طائفيًا علنيًا في العام 2015، عندما تدخل تحالف الدول بقيادة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لمنع انتصار الحوثيين والحيلولة دون إنشاء رأس جسر إيراني في شبه الجزيرة العربية.
وقد دمرت حملتهم اليمن -لكنها لم تهزم الحوثيين، الذين ازداد اعتمادهم على إيران خلال القتال فحسب. وعندما تنتهي الحرب، سيسيطر الحوثيون على أجزاء كبيرة من اليمن وسيكون لهم رأي كبير في تحديد سياساته.
وسيكون نصف الكأس الممتلئ من نصيب إيران والجانب الشيعي من دفتر الأستاذ الإقليمي، بينما سيكون النصف الفارغ للسعودية وحلفائها السنة.
بينما تتطلع الدول العربية السنية إلى تسوية ميدان اللعب، فإنها تتجه بشكل متزايد إلى التدفئة مع حليف قوي في الصراع ضد إيران: إسرائيل، التي وضعت نفسها بشكل مباشر في وسط الصراع الإقليمي المتنامي من خلال شن غارات جوية ضد القواعد الإيرانية في العراق وسورية، وتنفيذ الاغتيالات والهجمات الإلكترونية والتخريب الصناعي لإبطاء البرنامج النووي للجمهورية الإسلامية.
وحتى الآن، قصرت طهران ردودها ضد إسرائيل على الهجمات الإلكترونية والهجمات على سفنها في الخليج الفارسي، لكن الوضع قد يتصاعد بسرعة -ليس بالضرورة إلى حرب مباشرة بين إيران وإسرائيل، ولكن ربما إلى اشتباكات بين الشركاء الضمنيين لكلا الجانبين في العراق ولبنان وسورية، وشن إيران هجمات ضد حلفاء إسرائيل الجدد في الخليج الفارسي.
الضربة الارتدادية السُّنية
في خضم كل هذا، تبحث الدول العربية السنية عن استراتيجيات جديدة لحماية مصالحها. وكانت تعتمد حتى الآن على الولايات المتحدة لاحتواء توسع نفوذ إيران الإقليمي، وهو توسع آذنت بانطلاقه واشنطن نفسها عندما قامت بغزو العراق.
لكن رحيل الولايات المتحدة من أفغانستان، والحديث عن تقليص الوجود العسكري الأميركي في العراق، ورغبة إدارة بايدن في إنهاء "الحروب الأبدية" أجبرت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على البدء في الحديث مع إيران على أمل الحد من التوترات وكسب الوقت لبناء قدراتهما الإقليمية الخاصة.
وجاءت هذه المحادثات بعد سنوات من الحروب بالوكالة في جميع أنحاء المنطقة، ودعم السعودية والإمارات للخنق الأميركي للاقتصاد الإيراني، والهجمات الإيرانية داخل الأراضي السعودية والإماراتية.
ولذلك، تشكل هذه المحادثات جهداً مهماً للحد من التوترات. وتريد السعودية أن تضغط إيران على الحوثيين لإنهاء الحرب في اليمن ووضع حد لهجمات الطائرات المسيرة على أراضيها. ومن جهتها، تريد إيران بدورها التطبيع الكامل للعلاقات مع السعودية.
ولا يبدو أن ثمة انفراجاً قريباً يوشك على القدوم، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن المحادثات تجري في ظل المفاوضات النووية بين إيران والولايات المتحدة. ومع ذلك، يواصل الجانبان الاجتماع، وقد حددا الخطوات الأولى المحتملة في عملية تقارب، مثل فتح قنصليات لتسهيل السياحة الدينية.
وقد دعمت إدارة بايدن الحوار، لكن واشنطن لا تستطيع دفع الرياض للتوصل إلى اتفاق مع طهران إذا لم تستطع أن تفعل ذلك هي نفسها.
كما يظل شبح التطرفية السنية سبباً في قلق إيران أيضًا. وكان انتصار طالبان في أفغانستان بمثابة نعمة للتشدد السني في جميع أنحاء المنطقة وقدم له دفعة كبيرة: فتاريخ الجماعة الأفغانية غارق في العنف الطائفي الدموي، وهي ترى أن التشيع خارج عن الإسلام.
وعلى الرغم من أن طالبان لم تعد تتبنى علانية العداء للشيعة وأقامت علاقات مع إيران، إلا أن عودتها إلى السلطة تميزت بعمليات تطهير للشيعة من "الهزارة" من الوظائف الحكومية، وإغلاق أعمالهم التجارية، وطردهم من منازلهم وقراهم.
وعلى الرغم من أنه تم إلقاء اللوم في العنف الطائفي الأخير في البلاد، مثل الهجمات القاتلة بالقنابل على المساجد الشيعية، على فرع "داعش" المعروف باسم "الدولة الإسلامية، خراسان"، فإن ذلك يظل يؤكد احتمالية نشوب صراع طائفي أوسع في أفغانستان.
كما تسعى الدول العربية السنية إلى خلق عمق استراتيجي من خلال إصلاح الخلافات مع تركيا، التي تعتبر نفسها في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان قوة إقليمية ومدافعة عن الامتيازات السنية.
وتعتبر تركيا أردوغان نفسها وريثة للإمبراطورية العثمانية التي كانت حتى العام 1924 مقر الخلافة الإسلامية، القلب الرمزي للقوة السنية. كما أنها تحافظ على علاقات وثيقة مع جماعة "الإخوان المسلمين"، القوة الإسلامية الأكثر أهمية في العالم العربي.
وخلال "الربيع العربي"، عرضت تركيا نفسها كنموذج للعالم العربي، ودعمت المطالب الشعبية بالديمقراطية وطموحات "الإخوان المسلمين" إلى السلطة. وفي وقت لاحق، انحازت إلى جانب قطر عندما فرض جيرانها في الخليج العربي حصارًا عليها.
وقد أثارت هذه السياسات غضب ممالك الخليج الفارسي، التي اعتبرت تركيا منافسًا على قيادة العالم السني. وطغت هذه المشاحنات الضروس أحيانًا على التنافس الطائفي مع إيران.
وفي الواقع، كانت علاقة أنقرة بطهران بشكل عام أكثر دفئًا من علاقاتها مع الرياض وأبو ظبي. وأدى تنافس تركيا مع خصومها السنة إلى دخولها في كل ساحة تعمل فيها الطائفية، حيث راهنت حكومة أردوغان على سعيها إلى النفوذ في العراق ولبنان -ومؤخراً في أفغانستان.
كانت تركيا بمثابة حصن منيع ضد النفوذ الإيراني.
وقد استخدمت تركيا قوتها العسكرية في العراق وسورية بشكل فعال: وعلى الرغم من أنها لا تستطيع مجاراة قوات إيران بالوكالة، إلا أن قدراتها العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية ضمنت لها الاحتفاظ بدور مؤثر في الشرق الأوسط.
وبالمقارنة، فشلت الدول العربية السنية في كبح جماح القوة الإيرانية بأي طريقة ذات معنى. وجاء استثمارها في المعارضة السورية بلا فائدة، وتخلت السعودية عن لبنان، وفشلت في الحصول على موطئ قدم في العراق، وتعثرت في الحرب في اليمن.
ومع ذلك، تواصل بعض الدول العربية السنية ممارسة نفوذها في واشنطن، وتعزز هذا العمق الاستراتيجي بالتعاون الاستخباراتي والعسكري مع إسرائيل.
ولكن، على الأرض، يمكنها أن تأمل فقط في إبطاء تقدم إيران، وليس تقويضه.
المغادرة مع الاحتفاظ بعلاقات جيدة
لا تستطيع الولايات المتحدة التخفيف من جميع المخاطر التي تلوح في أفق الشرق الأوسط. لكن عليها أن تتجنب جعل الأمور أسوأ مما هي. وقد يكون لعب دور أميركي أصغر في المنطقة حتميًا، لكن الطريقة التي تسحب بها واشنطن أصولها ستكون مهمة.
بالنسبة للكثيرين في الشرق الأوسط، يعد الانسحاب الأميركي اختصارًا لتخلي واشنطن عن المنطقة، حيث دافعت سابقًا ضد تهديدات الاتحاد السوفياتي وإيران والعراق، ومؤخراً، "داعش".
وحتى لو استمرت الولايات المتحدة في الحفاظ على وجود عسكري كبير لها في المنطقة، فإن التزامها باستخدام القوة العسكرية يصبح مفتوحاً أكثر على التساؤل باطراد.
يشكل هذا الارتباك الاستراتيجي فرصة لإيران ووكلائها. كما أنه سيدعو مشاركين جدداً للدخول إلى المعركة، مثل روسيا وتركيا. ولا يوجد بديل جاهز لاستراتيجية الاحتواء التي تتبعها الولايات المتحدة، والتي ظلت لأكثر من أربعة عقود بمثابة البنية الأمنية الفعلية في المنطقة.
ولعل أفضل ما يمكن أن تهدف إليه واشنطن هو تثبيط الخصومات الإقليمية ومنعها من التصاعد، على أمل أن يوفر الهدوء النسبي فرصة لتطوير أطر إقليمية جديدة.
ولهذا السبب، يجب أن تسير جهود الولايات المتحدة للتراجع عن فرض الاحتواء جنبًا إلى جنب مع اندفاع دبلوماسي من أجل تقليل وحل النزاعات بين القوى الإقليمية.
وسيظل وجود اتفاق نووي مع إيران أهم رادع لقدوم مزيد من عدم الاستقرار الإقليمي. وهناك أسباب مفهومة تجعل إدارة بايدن مترددة في العودة إلى الاتفاق النووي للعام 2015.
ومن المقرر أن تنتهي بعض القيود التي وضعها الاتفاق على إيران قبل نهاية الولاية الأولى للرئيس جو بايدن، وسيكون من شأن رفع العقوبات المطلوب كجزء من الصفقة أن يثير انتقادات من الحزبين.
ولهذه الأسباب، تقول الإدارة الأميركية إنها تريد صفقة "أطول أمداً وأقوى". ومع ذلك، فإن إيران مهتمة فقط باستعادة اتفاق العام 2015 -ولكن هذه المرة بضمانات أميركية بأن الإدارة المقبلة لن تقوض الصفقة مرة أخرى.
وسيكون من شأن جمود -أو الأسوأ من ذلك، انهيار المحادثات- أن يضع إيران والولايات المتحدة على طريق خطير نحو المواجهة التي ستشعل العالم العربي حتماً وتؤجج الطائفية.
وقد شجعت إدارة بايدن الجهات الفاعلة الإقليمية على التحدث مع بعضها بعضا. لكن هذه الحوارات لن تستمر إذا تعثرت الجهود المبذولة لاستعادة الاتفاق النووي الإيراني.
وستكون الضحية الأولى هي الاستقرار في العراق ولبنان، الأمر الذي يتطلب توافقاً بين الأطراف الشيعية والسنية.
ولكي تتمكن إدارة بايدن من إخراج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، فإنها في حاجة إلى تحقيق حتى ولو قدر ضئيل من الاستقرار الإقليمي -ويجب أن يبدأ هذا الجهد بإعادة إيران والولايات المتحدة إلى الامتثال المتبادل لاتفاق 2015.
لأكثر من أربعة عقود، نظرت الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط على أنه مكان حيوي لمصالحها الوطنية. وفي الأثناء عقدت تحالفات مع دول عربية لاحتواء إيران، وإبقاء الإسلاموية بعيدة، وإدارة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
وكانت الإستراتيجية الأميركية أكثر نجاحًا عندما تمكنت من الحفاظ على توازن قوى مستقر بين إيران وجيرانها العرب. ومنذ أن قوضت الولايات المتحدة هذا التوازن بغزوها العراق في العام 2003، كانت عاكفة على محاولة استعادته -والآن، في مواجهة تحديات عالمية أخرى ملحة، يبدو أنها تتخلى عن هذا الجهد كليًا.
وثمة ما يكفي من الأسباب لتبني إعادة التقويم الاستراتيجي هذه. وسيكون السعي إلى تحقيق توازن قوى ما يزال مراوغاً وبعيد المنال جهداً مكلفاً للغاية، خاصة وأن الشرق الأوسط لم يعد يتمتع بأهمية حيوية بالمقدار نفسه للمصالح القومية الأميركية.
لكن ترك المنطقة لآلياتها الخاصة هو مناورة خطيرة. من دون ترتيب أمني جديد، ستكون الفوضى والصراع هما النظام السائد في الوقت الراهن.
وستكون لعودة التطرف الإسلاموي، وشبح المزيد من انهيار الدولة، والحروب الكبيرة والصغيرة على الأراضي والموارد، والصراع المفتوح بين إيران وإسرائيل، عواقب أمنية وإنسانية كارثية والتي ستتطلب حتماً اهتماماً أميركياً متجدداً.
وإذا كانت الولايات المتحدة تريد أن تتجاهل عبء الحفاظ على توازن القوى في الشرق الأوسط، فإن عليها أن تبحث عن بديل مستدام -ترتيب يمكن أن ينهي الصراعات الأكثر خطورة في المنطقة ويضع القواعد لترتيب إقليمي قابل للتطبيق.
ويجب أن تبدأ هذه المهمة بنزع فتيل الصراع الذي يمثل أكبر تهديد للمنطقة: المواجهة مع إيران.
*Vali Nasr: أستاذ مجيد خضوري لدراسات الشرق الأوسط والشؤون الدولية في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: All Against All: The Sectarian Resurgence in the Post-American Middle East
اضافة اعلان