مارتشيلا روبينو – (أوريان 21) 7 آذار (مارس) 2023
عرف السودان منذ خمس سنوات مرحلة انتقالية تميزت بالاضطراب السياسي. وبات السكان يتعايشون مع شعور بالفوضى يمكن الشعور به في الحياة اليومية، حيث تواصلت الاحتجاجات والمظاهرات الأسبوعية الرافضة للانقلاب، والتي أدت إلى عرقلة الحياة اليومية وإغلاق المدارس والمكاتب وتعطيل المرور في كثير من أحياء العاصمة.
كما عاش السكان حالة من الريبة منذ انقلاب تشرين الأول (أكتوبر) 2021 تجاه الحكومة الانتقالية التي وصلت إلى السلطة إبان ثورة كانون الأول (ديسمبر) 2018.
على الرغم من خيبة الأمل الحقيقية جرّاء انقطاع المسار الانتقالي، واصل الكثير من السودانيين، والأجيال الصاعدة المتعلمة التي تنتمي إلى الطبقة الوسطى والعليا بخاصة، المقاومة من خلال الأنشطة الثقافية، بهدف قيام ثورة أخرى –من الأسفل، أكثر بطئا وتدرجا.
وكانت حيوية المؤسسات الثقافية –برغم السياق السياسي– وعزمها على توسيع نطاق نشاطها خارج العاصمة لتطال أبعد المناطق، من الظواهر الملموسة التي أكدت على استمرارية الأمل الثوري.
تعكس المراكز الثقافية العديدة التي تأسست قبل انتفاضة 2018 أو بعدها والتي يرتادها خاصة الشباب، حياة ثقافية نشطة بشكل خاص.
وقد أصبحت تعرف شيئا فشيئا خارج حدود البلاد، من خلال ترجمة بعض الأعمال الأدبية. لكن اهتمام المواطنين السودانيين بها تزايد أيضا. وسنجد بين رواد الثقافة الذين ما يزالون فاعلين في الميدان، والمراكز الجديدة المعنية بالأدب، أفرادًا مهتمين بتطوير الثقافة الشعبية بطموح وحماسة كبيرين.
مركز ميرغني .. “واحة في صحراء”
يُعد مركز عبد الكريم ميرغني من أقدم المراكز الثقافية في أم درمان -أعرق وأوسع المدن الثلاث التي تتكون منها ولاية الخرطوم– التي ما تزال ناشطة حتى الآن.
وقد تأسس في 15 أيار (مايو) 1998، ويحمل اسم معلم وسفير أم درماني. وكان تأسيسه في تلك الفترة، أي في سياق طغى عليه القهر وسيطرة النظام السابق من محافظين وعسكر، يمثل ما سمّاه الأعضاء القدامى للجنة الإدارة “واحة في صحراء ثقافية”.
وبعد حوالي 25 سنة، يظل المركز في غاية الحيوية. ويشرح لنا مديره، وليد سوركتي، فعالياته الأساسية المتمثلة في:
“منح جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي التي وصلت إلى دورتها العشرين، وإقامة مسابقة القصة القصيرة التي وصلت إلى دورتها الرابعة عشر.
أما مهرجان المسرح، فوصل إلى دورته الخامسة. وخلال هذه السنوات، نشرنا أكثر من 24 رواية ومجموعة قصصية وأربع مسرحيات. وبالإضافة إلى هذه الفعاليات السنوية الثابتة، لدينا العديد من الفعاليات الأخرى، كحفلات إمضاء الكتب، وإقامة محاضرات عن مواضيع مختلفة. كما يحتوي المركز على مكتبة واسعة مفتوحة للجميع، حتى لو كان أغلبية روادها من الطلاب”.
يحصل المركز على تمويل نشاطاته من بيع الكتب واشتراكات الأعضاء، كما تحظى بعض الفعاليات التي يقيمها المركز بتمويل من شركات خاصة، كشركة الاتصالات الجنوب-إفريقية MTN.
“لا يحصل المركز على أي تمويل من الدولة، خاصة وأن العهد السابق (1989-2019) لم يكن يهتم بالشأن الثقافي، حيث كانت التدخلات رقابية بحتة، حتى أن الفعاليات الثقافية لم تكن تقام من دون الحصول على تصريح من الجهات الأمنية. لكن الوضع تحسن بعد الثورة، حيث للطبقة الحاكمة -مع حالة الفوضى التي يعيشها البلد حاليًا- مشاكل أكبر بكثير من مراقبة المراكز الثقافية”.
ولم يمنع غياب الدولة السودانية عن المجال الثقافي المركز من التعاون مع عدد من المراكز الثقافية الأخرى، مثل المجلس البريطاني والمعهد الفرنسي، بالإضافة إلى عدد من المعاهد والجامعات السودانية والأجنبية وبعض المنظمات الدولية.
لكن الرواد في مركز ميرغني يقولون: “مع الأسف، أغلب هذه النشاطات توقفت حاليًا. فالمراكز الثقافية الأجنبية لم تعد نشيطة كالسابق، كما أن معظم الوكالات والمنظمات الدولية المعنية بالشأن الثقافي تركت البلد أو قلّلت من حجم نشاطها فيه”.
“من أجل مجتمع الأنوار”
تأسس مركز “الخاتم عدلان” في وسط الخرطوم في نيسان (أبريل) 2007. ووفق مدرائه، كان هدف مشروعه السياسي الاحتجاجي محاربة الفكر الظلامي بجميع أشكاله. ويحمل المركز اسم الفيلسوف والسياسي السوداني المولود في العام 1948 والذي ناضل “من أجل مجتمع الأنوار وسلام دائم في السودان”.
تعرف نائبة المدير، أروى الربيع، بفعاليات المركز التي “تهدف إلى تقديم فكر بديل يواجه إيديولوجيات الاستقطاب وصراعات الهوية. كما تسعى برامج المركز إلى ترويج الثقافة السودانية من خلال الموسيقا والسينما في إطار ما يسمى بـ”الفضاءات المحايدة” التي يعبّر فيها كل الحضور عن رأيهم، بغض النظر عن نزعاتهم السياسية.
أما البرنامج الموسيقي، فيطلق عليه اسم “رسائل السلام عبر الموسيقا”، حيث اختفت الموسيقى تحت نظام عمر البشير والإخوان المسلمين من الأماكن العامة.
كما لم يكن التلفزيون يقدم إلا برامج دينية وتم تعديل المناهج المدرسية لكي تتناسب مع إيديولوجيا النظام. واليوم، يحاول المركز أن يعيد بث الحرية في مجتمع فقدها شيئا فشيئا خلال الثلاثين سنة الأخيرة”.
يحظى المركز بالتمويل من جهات خاصة أو من منظمات دولية مثل الصندوق الوطني للديمقراطية (National Endowment for Democracy).
كما تعرض لتهديدات عديدة خلال فترة نظام البشير وأُغلق سنة 2012. ولم يُسمح بفتحه من جديد إلا بعد ثورة 2018 وإسقاط النظام.
“بالثقافة نرتقي، بالثقافة ننهض”
يعتبر مركز “نرتقي” بغرفه الثلاث ومطبخه وحوشه الصغير، أحد أنشط المراكز الثقافية في الخرطوم، في حي المنشية. أسسته سنة 2020 إسراء الريس، وهي امرأة شابة تعشق القراءة منذ صغرها.
وبعد تخرجها في مجال طب الأشعة، قررت إسراء العودة إلى شغفها الأول والعمل في مجال الكتب والثقافة، من أجل تحقيق الارتقاء الفكري للشباب السوداني، ومنها جاء اسم الجمعية.
وتقول إسراء: “عندما نظمنا لأول مرة معرض كتاب بعد الثورة، كتبنا على الملصقات الإعلانية: “بالثقافة نرتقي، بالثقافة ننهض”. ثم عندما وُلدت الجمعية، كان شعارها “ليس بالخبز وحده يحيى الإنسان””.
في مركز “نرتقي”
“كانت مجموعة صغيرة من الشباب تلتقي بصورة شبه شهرية لتتناقش حول الأدب والفنون الجميلة والموسيقى. وفي فترة الثورة، كان هدفهم الأساسي تسهيل ترويج الكتب الورقية في السودان، ما أدّى إلى ولادة “نرتقي”، الذي كان مركزاً رائداً في هذا المجال، وتكفّل بشحن الكتب إلى عدة مناطق، بما في ذلك المناطق النائية مثل دارفور.
بعد ذلك، قرّرت إسراء استئجار مكان للجمعية في الخرطوم لكي تنظم فيه فعاليات ثقافية متنوعة، مثل دروس الموسيقا أو اللغات الأجنبية، وأسبوع اللغة العربية، وصالون “نرتقي” الثقافي، حيث تقام ورش كتابة إبداعية وورش لغوية، كلّها موجهة إلى التعليم الشعبي.
مع الأسف، يعرقل عدم الاستقرار السياسي والأمني نجاح الفعاليات التي نقيمها. يصعب على الناس الالتزام بمواعيدهم وتوقع ما سيحدث في اليوم الذي تدور فيه الفعالية أو اللقاء أو الورشة. إذ يحدث مرارا -بل بصورة شبه يومية- أن تكون الشوارع مغلقة بسبب المظاهرات. لكن من نتائج الثورة الإيجابية أن الرقابة على الأماكن الثقافية قلّت بسبب انشغال الجيش في قمع الاحتجاجات”.
“نيرفانا”: دعم مهنة النشر
تأسست
مؤسسة “نيرفانا” في حزيران (يونيو) 2017 على يد مهند رجب، وهو روائي في الثلاثين من عمره فاز بجائزة الطيب صالح سنة 2014، وبجائزة زين سنة 2019. وأراد مهند من خلال هذا المركز أن يساهم في تقدم السودان في المجال الثقافي واللحاق بالركب مع البلدان الغربية، ويقول:
“ينظم المركز جائزة الكتابة الإبداعية باللغة العربية، وهي جائزة موجهة للذين لا تتجاوز أعمارهم 16 سنة، كما يقدم جائزة أفضل دار نشر، وجائزة أخرى لأفضل غلاف.
وتهدف هذه الجوائز إلى دعم دور النشر وتشجيعها على تطوير آلاتها التقنية، واحترام حقوق المؤلفين. نريد إقناع الناس بأن النشر مهنة حقيقية، بعيدة عن النشاط الهمجي التي تشهده السوق السودانية والذي يضرّ بالمنشورات الأدبية”.
لـ”نيرفانا” أستوديو تسجيل يتم فيه تحويل الأعمال الأدبية إلى مدوّنات صوتية (بودكاست) موجهة للذين ليس لديهم الوقت للقراءة، وتُبثّ بعد ذلك في إذاعة أم درمان أو الإذاعة السودانية، أو في منصات مثل “ساوند كلاود”. ويتابع مهند: “هذه المبادرة والمبادرات الأخرى -على غرار إقامة مكتبات مجانية في بعض الولايات السودانية- تقوم بتمويلها وكالة الولايات المتحدة للتطوير الدولي (USAID)”.
توظّف المؤسسة شبابا للعمل في الاستقبال أو التنشيط أو الإدارة كمضيفين، وكمسؤولين عن الجوانب التقنية. وهم طلبة أو متخرّجون جدد، تعطيهم المؤسسة فرصة للتدرب والحصول على تجربة مهنية قد تفيدهم لدخول سوق العمل.
كما يقدّم “نيرفانا” فعاليات أخرى كثيرة، مثل نادي السينما الدولية المتمحور حول الإنتاجات المستلهمة من الأعمال الأدبية، ونادي السينما السودانية، ونادي القراءة، وحفلات موسيقية، وورش في مجالات ثقافية مختلفة، ونقاشات حول مواضيع اجتماعية.
ومرة في السنة، تنظم المؤسسة حفلة موسيقية ضخمة ومدفوعة الأجر في قاعة كبيرة على شارع النيل، تقدر بفضلها تغطية جزء من النفقات السنوية. لكن أغلبية هذه النفقات هي من تأمين الأموال الخاصة لمديرها مهند رجب.
مواهب نسائية جديدة
تأسس مركز “الفأل” الثقافي على يد الكاتبة السودانية سارة الجاك، وكان ذلك بعد وباء كورونا. وكان هدفها تسليط الضوء على مكانة النساء السودانيات في الإنتاج الأدبي للبلاد، وتشجيع المواهب النسائية الجديدة من خلال إقامة الدورات التدريبية. وتقول الجاك:
“ننظم كل شهر ورش كتابة تدوم أربعة أيام، انطلاقاً من الإنتاج الأدبي النسائي السوداني. وقد جمعنا 140 رواية نسائية سودانية، ابتداءً من كاتبتنا الأولى، ملكة الدار محمد، حتى اليوم. ونقوم بقراءتها، واحدةً تلو الأخرى، ثم نتناقش حول مواضيعها وأساليبها، ونطلب من كاتباتنا الناشئات أن يستلهمن منها”.
يقود مركز “الفأل” تفكيراً بالغ الأهمية حول تاريخ الكتابة النسائية في السودان، وظروفها المادية، وميزاتها الشكلية.
دعم الشعر والأدب باللغة العربية
يدير الدكتور صديق عمر الصديق “بيت الشعر” و”مركز الأستاذ عبد الله الطيب”، وهما مؤسستان مرتبطتان بجامعة الخرطوم، التي تتكلف بتمويلهما جزئياً.
وقد تأسس بيت الشعر الخرطومي بفضل مبادرة إمارة الشارقة، التي كانت ترغب في دعم الفعاليات المتعلقة بالشعر في البلدان العربية، مثلما فعلت في مصر وتونس وموريتانيا والمغرب والأردن. وينظّم البيت فعاليات عديدة، من بينها “مهرجان الخرطوم للشعر العربي” الذي يدعو شعراء من كل العالم العربي، و”منتدى الخرطوم للنقد الشعري السوداني”.
ويقول صديق عمر الصديق:
“نستقبل هنا كل التيارات الشعرية الموجودة في السودان: الشعر العمودي، الشعر الحر وقصيدة النثر، بالفصحى وبالعامية. ونوفّر منصة حرة لكل الشعراء لكي يتحاوروا. وبالإضافة إلى ذلك، ننظم كل يوم ثلاثاء منتدى شعريا أسبوعيا، حيث يستطيع كل الشعراء الشباب إلقاء قصائدهم. وهذا المنتدى فرصة لنكتشف من خلالها الشباب الذين يتمتعون بمواهب حقيقية”.
أما “مركز عبد الله الطيب”، فتقام فيه منذ 2002 محاضرات عن اللغة والأدب، وتم تنظيم حتى اليوم حوالي 500 محاضرة، البعض منها بتمويل من “شركة الاتصالات الكويتية” (زين).
ويشرف المركز كذلك على مبادرة أخرى مفتوحة لطلاب كل الجامعات العامة والخاصة، “مناظرات”، وهي جدالات يقوم خلالها فريقان خصْمان بمهاجمة أو الدفاع عن قضيّة ما، سياسية أو اجتماعية أو ثقافية أو اقتصادية.
ويختم الصديق بفخر: “نحن الجامعة الوحيدة في العالم التي تنظم هذا النوع من النشاطات، ما سمح لنا بالحصول على مراتب عليا جداً في بطولات المناظرات التي تجري في قطر أو في المكسيك.
في زمن البشير، حاولنا تأسيس مركز سوداني للمناظرات، لكن المشروع فشل بسبب منع السلطات الخائفة من البعد السياسي لهذا النوع من الممارسات”.
*
مارتشيلا روبينو: أستاذة محاضرة في المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية، باريس، فرنسا.
اضافة اعلان