المهمة البغدادية: من كان وراء أكبر سرقة مصرفية في التاريخ؟ (2-2)

رسم تعبيري للفنان مايك ماكويد - (المصدر)
رسم تعبيري للفنان مايك ماكويد - (المصدر)

نيكولاس بيلهام – (مجلة 1843) 2023/7/27
يبدو من غير المحتمل أن يمثُل أي من المستفيدين الحقيقيين من السرقة، أياً كانوا، أمام العدالة. وتعني رائحة الذنب التي تتعلق بالنخبة السياسية بأكملها أنها لن تكون هناك الكثير من المساءلة للأفراد. وعلى الرغم من أن مكتب السوداني يصر على أنه يتابع التحقيق بقوة وبلا تهاون، فإنه لم يُصدر سوى القليل من الإعلانات منذ مؤتمره الصحفي في العام الماضي.
                        *   *   *
على مدار عام كامل، حوّل نور زهير بنكَ دولة متبلد غير مستجيب في العادة إلى نموذج للكفاءة. أخبرني مسؤول في أحد المصارف الحكومية بأن مصرف الرافدين يتعامل عادة مع حوالي ملياري دينار عراقي في اليوم. لكن هذا الرقم ارتفع في يوم واحد خلال عملية السرقة إلى 40 مليارًا. وقال محاسب يعمل بانتظام مع مصلحة الضرائب: "تم إصدار شيكات بعشرات الملايين من الدنانير في غضون 24 ساعة، وتم توفير الأموال اللازمة لصرفها نقدًا في اليوم التالي".

اضافة اعلان


سوف يشكل سحب 2.5 مليار دولار نقدًا في أقل من عام تحديًا لوجستيًا في أي بلد، ناهيك عن واحد تبلغ قيمة أعلى ورقة نقدية لديه -ورقة الخمسين ألف دينار- حوالي 35 دولارًا. ولو تم تكديس جميع الأوراق النقدية المسروقة فوق بعضها البعض، فإن ارتفاع الرزمة سيكون أعلى من جبل كليمنجارو.** كان لا بد من استخدام الشاحنات لنقل أموال السرقة.


كانت حركة الذهاب والمجيء واضحةً جدًا حتى أن مدير شركة يفترض أنها تحتكر نقل الأوراق النقدية كتب إلى "الرافدين" في كانون الثاني (يناير) 2022 معربًا عن قلقه. ومع ذلك، لا يبدو أن أحداً أوقف تلك السيارات.


ليس من الواضح ما الذي حدث للمال بعد ذلك. يبدو أنه قد تم إنفاق بعضه في العراق. وأخبرني العديد من السياسيين والمسؤولين عن مجموعة من العقارات التي يعتقدون أن نور زهير اشتراها في "حي المنصور" الفاخر، حيث يقيم. لكن معظم الأموال، وفقًا لمسؤولين أمنيين سابقين، تم تحويلها إلى دولارات وأُخذت إلى خارج البلاد.


كان ينبغي أن يكون تصدير حقائب مليئة بالدولارات عبر مطار بغداد مسعى صعباً. في العادة، يصعد معظم الركاب إلى متن الطائرة فقط بعد خمس عمليات مسح بالأشعة السينية وفحصين بواسطة الكلاب البوليسية وتفتيش جسدي. ولكن، هناك طريقتان للمرور بأقل قدر من التدقيق والتطفل، كما أخبرني رجل مخابرات عراقي؛ إحداها بالمرور من خلال صالة المطار التابعة لجهاز المخابرات.

 

وعلى عكس قاعة الركاب القذرة التي يعود تاريخها إلى عهد صدام حسين، تتميز غرفة الانتظار في هذه الصالة ببلاط أبيض نظيف وأضواء موضعية وجدران مبطنة بلوحات الفن العراقي. وتنتظر سيارات ليموزين من نوع "مرسيدس" في الخارج لنقل الركاب من كبار الشخصيات إلى طائراتهم الخاصة. أما الطريقة الثانية، فمن خلال بوابة مغلقة في الجدار المحيط بالمطار، حيث عادة ما تدخل الأحمال الثقيلة.


وفق مسؤول استخباراتي، استخدم زهير كلا الطريقين. كان حراس الأمن يلوحون له بينما يمر إلى صالة المخابرات حيث ينتظر ركوب طائرته الخاصة. وكانت الشاحنات تمر عبر البوابة إلى طائرته

 

. ويقول رجل المخابرات أنه رأى ذات مرة الأضواء الكاشفة على المدرج مطفأة بينما تدحرجت ثماني شاحنات هناك. ولم تتم إضاءة الأنوار مرة أخرى إلا بعد عشر دقائق، وفي ذلك الوقت، من المفترض أن تكون الشحنة قد خُزنت في الطائرة. وبحسب تقرير برلماني، قام زهير بأكثر من 20 رحلة إلى الخارج في العامين 2021 و2022. وكان الحديث الذي يدور في أوساط النخبة العراقية هو أن المطاف انتهى بالكثير من الأموال المسروقة في العاصمة الأردنية، عمان.


أخبرني ضابط مخابرات سابق بأنه عندما سمع زهير عن التحقيق الذي يجريه قنبر، عرض على وزير المالية، عبر وسيط، عشرات الملايين من الدولارات مقابل التخلي عن التحقيق.

 

(يقول مسؤولون آخرون أن عبد الجبار، وزير المالية، كان يبحث عن حصة ورُفض طلبه. ونفى عبد الجبار أي اتصال مباشر أو غير مباشر له مع زهير). ولكن، تم تسليم التقرير الذي أعده قنبر على أي حال، وبعد أسبوعين تلقى زهير معلومة مسربة تفيد بأنه على وشك التعرض للقبض عليه، بحسب ضابط مخابرات آخر يعمل في القضية. وقال الضابط أنه هرع على الفور إلى المطار في سيارة ليموزين وتوجه إلى المدرج حيث كانت طائرته تنتظر. ولكن، قبل أن ينطلق اقتحمت قوات الأمن المكان واعتقلته. وترددت إشاعات عن نقل زهير من سجن المطار إلى مركز احتجاز لـ"كبار الشخصيات"، حيث يوجد حوض سباحة، ولو أن السلطات القضائية تنفي ذلك.


بعد فترة وجيزة من اعتقال زهير، أطيح بالكاظمي من منصب رئيس الوزراء. وعيّن المعسكر الموالي لإيران رجلَه، محمد السوداني، لقيادة الحكومة. وفي العلن، تبنى السوداني تحقيق قنبر ووعد بأن أحدًا لن يسلَم من قبضة القانون. وبعد شهر من ولايته، عقد مؤتمرًا صحفيًا، حيث وقف محاطًا برزمتين عملاقتين من الدنانير، وأعلن منتصرًا أنه استعاد 125 مليون دولار من زهير، وهو جزء صغير جدًا من المليارات المفقودة.


بعد ذلك بوقت قصير، تم إطلاق سراح زهير بالكفالة لمدة أسبوعين. وقال مسؤولون إن هذا الإجراء كان لمساعدة السلطات على استرداد المزيد من الأموال. وبعد شهور كان ما يزال طليقًا.

 

وعندما زرت العراق هذا الربيع، مررتُ بجوار قصر زهير في حي المنصور. كانت الأنوار مضاءة. وزعم العراقيون الذين تحدثت إليهم أنه شوهد في دبي، وعمّان، ولندن. وفي نيسان (أبريل) 2023، وصل الأمر إلى إلغاء المحاكم تجميد أصوله. وأخبرني أحد مساعدي السوداني بأن رئيس الوزراء ليس لديه خيار آخر. "لو أنه لم يفرج عن نور زهير لفقد رأسه". وعندما سألَت "مجلة 1843" السوداني عن حقيقة الإفراج عن زهير، قال متحدث باسمه أن ذلك كان قرارًا من المحاكم وليس من الحكومة، مضيفًا أنه لم يتم إسقاط التهم الموجهة إلى زهير.


الرجل الذي يتربع على قمة نظام المحاكم العراقية هو فائق زيدان، رئيس "مجلس القضاء الأعلى". وزيدان رجل يثير الرعب. وقد أخبرني سفير سابق وضابط مخابرات عراقي سابق بأن لدى زيدان سلطة جعل القضايا تختفي (ينفي زيدان ذلك، ويقول أن دوره "إداري فقط"). وكان أحد شخصين في العراق قيل لي أن أتجنب الاصطدام بهما. وقال مسؤول سابق: "لديه صلاحيات هائلة. هذا أمر خطير للغاية".


على الصعيد الشخصي، زيدان شخص ودود بما يكفي. وقد أعطاني وصفًا مطولًا لحالة القضية. وقال زيدان أنه سُمح لزهير بالسفر حتى يتمكن من تصفية أصوله في الخارج وإعادة أموال الدولة العراقية. ويبدو أن هذا الإجراء قد أدى فعلاً إلى استرداد حوالي 270 مليون دولار. ومن المثير للدهشة أن زيدان بدا مهتمًا أيضًا بإعطاء زهير مزية الشك، وقال أنه ربما كان وكيلًا حقيقيًا للشركات التي تسعى إلى الحصول على الحسم.


لم يكن من الواضح مباشرة لماذا كان زيدان يحاول أن يجعل الحياة سهلة على زهير، أو ما إذا كان هذا هو ما يحدث (يرفض زيدان الإشارة إلى أي مخالفة في سلوكه). ولا يخضع الرجال مثله للوسطاء والواسطات من البصرة. كان لدى المسؤولين العراقيين الحاليين والسابقين تفسير آخر لقرار إطلاق سراح المشتبه به الرئيسي في السرقة. قال أحدهم: "كان زهير مجرد دمية". وقال آخر: "ضحية". وقال ثالث: "كان واجهة".

ولكن لمن؟


سرعان ما بدأت حكومة السوداني في أخذ القضية إلى اتجاه جديد. بدا أن المسؤولين حولوا تركيزهم بعيدًا عن زهير، وأصدورا الأمر بدلاً من ذلك بالتركيز على الأشخاص المشاركين في فضحه.

 

(وفقًا لمتحدث باسم السوداني، اعترف زهير بالحصول على مساعدة من كبار الشخصيات في الإدارة السابقة). وعندما أصبحوا تحت عدسة التدقيق، بدأ أعضاء من معسكر الكاظمي في الاتصال بي. كانوا مصرين على أن زهير كان عميلاً لمؤيدي السوداني: زعماء الفصائل الذين لهم صلات بإيران. وقال لي أحدهم: "لا تدع أيًا من هؤلاء الملاعين يفلت من العقاب".


كان أحد أعضاء فريق الكاظمي، الذي حيرني أمره، هو هيثم الجبوري، المستشار المالي. وقد علمت من أصدقائه أن الجبوري كان يستخدم زهير كمساعد شخصي عندما كان رئيسًا للجنة المالية البرلمانية. وبحسب مسؤول استخباراتي عراقي يعرف الجبوري شخصيًا، فإن زهير كان يتصل بأصحاب الأعمال التي كانت اللجنة تحقق فيها ويعرض تعليق التحقيقات مقابل مدفوعات.

 

ويُزعم أن العملية كانت تدر نحو 200.000 دولار شهريًا. ووفقًا لرسالة اطلعَت عليها "مجلة 1843"، فقد كان الجبوري هو الذي أوصى بضرورة السماح لمصلحة الضرائب بإصدار شيكات كبيرة من دون إشراف هيئة التدقيق الحكومية.


لم يستجب الجبوري لمحاولات "مجلة 1843" التواصل معه من أجل التعليق، لكنه صرح لموقع "ميدل إيست آي" الإخباري بأنه اقترح ببساطة أن مجلس التدقيق الأعلى يجب أن يظل ضمن حدود دوره القانوني.

 

وقد تم القبض عليه بعد فترة وجيزة من تولي السوداني سدة السلطة. واقترح حلفاء الكاظمي أنني يجب ألا أدقق كثيرًا في مسألة أن الجوبوري كان يقدم لهم المشورة (أوضح أحدهم: "عندما يكون لديك 200 مستشار، يتسلل بينهم بعض المجرمين في بعض الأحيان").


كان لديّ سؤال آخر للكاظمي يتعلق بالرحلات الجوية. يقع مطار بغداد مباشرة تحت سلطة رئيس الوزراء. وعلى الرغم من أن زهير كان، من الناحية الفنية، تحت حظر السفر لتورطه المزعوم في عملية احتيال سابقة، فإنه طار بحرية إلى البلد ومنه خلال الفترة التي تم فيها سحب الأموال من مصرف الرافدين. كيف سمح الكاظمي لذلك بأن يحدث؟


اقترح الكاظمي أن نلتقي في فندق "ذا غروف"، وهو فندق من فئة الخمس نجوم يضم ملعب غولف فخمًا ويقع خارج لندن مباشرة. كان الكاظمي قد انتقل إلى بريطانيا حفاظًا على سلامته في تشرين الثاني (نوفمبر) 2022.

 

ووصل إلى مكان لقائنا في سيارة ليموزين سوداء. كان ترامب قد أقام هنا، ذكّرني الكاظمي عندما جلسنا لاحتساء الكوكتيلات غير الكحولية على الشرفة الحجرية. كان الكاظمي هادئًا ومهذبًا. وعلى الرغم من أنه يتحدث الإنجليزية، فضل إجراء مقابلتنا باللغة العربية، وكان يتمتم كما لو انه ينخرط في محاولة متعمدة لتجنب قول أي شيء يمكن الاستشهاد به.


عندما سألت عن الجبوري، أجاب الكاظمي بأنه لا يعرفه. ثم عاد فصحح نفسه واعترف بأن تعيين الجبوري كان حقيقة "قاتمة". قدّم نفسه على أنه ضحية سلبية للظروف. ومع ذلك، كان رئيس الوزراء، وظل معظم فترة ولايته رئيسًا لجهاز المخابرات في البلد أيضًا. ولا بد أنه كان يتمتع ببعض السلطة، وأنها كانت لديه على الأقل فكرة عما يجري.

 

حاولت مرة أخرى: ألم يمهد رجاله الأمنيون الطريق لزهير عبر المطار؟ تهرب الكاظمي من السؤال. وأجاب: "علينا أولاً أن ننظر إلى مسؤولي البنوك".
كان تبريره لعدم اكتشاف السرقة يمر بحالات وتحولات خلال حديثنا. في البداية، كان ذلك خطأ موظفيه. ثم أن انتباهه تشتت بسبب فيروس كورونا، والانخفاض في أسعار النفط الذي أعقب ذلك، وموقف إدارة ترامب القائم على المواجهة مع إيران.

 

وأصر على أن هذا القدر من المال لم يكن كثيرًا جدًا إلى هذا الحد، مقارنة بمئات المليارات التي فُقدت بسبب الفساد منذ العام 2003. لم يكن صحيحًا بالتأكيد أن معظم الأموال قد اختفت عبر المطار، حسب رأيه. وثمة عبارة استمر في استخدامها، كانت: "100 في المائة لا".


في وقت لاحق، كتبتُ إلى الكاظمي وأشرت في رسالتي إلى قصة سمعتها. أحد معارفي على صلة بسياسي عراقي احتاج، في أيار (مايو) 2022، إلى علاج طبي عاجل في الخارج. ووفقًا لمصدري، وفر الكاظمي للسياسي مقعدًا على متن طائرة خاصة ليكون تحت تصرفه. وعندما صعد السياسي إلى متن الطائرة، تفاجأ باكتشاف زهير هناك. وقال مصدري أن الطائرة أنزلت السياسيّ المريض في عمان في حين توجه زهير إلى بيروت.

 

ورد الكاظمي بنفي قاطع للادعاء الذي قال إنه "بلا أساس". (في الرسالة نفسها، قال أنه كان قد تم تعيين الجبوري كخبير تقني وليس كمستشار، وأنه تم توبيخه في ذلك الوقت بسبب تضخيم دوره).


كانت تعاملاتي مع الكاظمي محبطة. لا بد أن يكون زهير قد تلقى مساعدة من أعلى المستويات. وقد أصر كل من الفصيلين الرئيسيين على أن هذه المساعدة جاءت من الفصيل الآخر. ثم خطر لي خاطر. لماذا لا تكون للاعبين من كلا الجانبين حصة في العملية؟


أخبرني ساجد جياد، وهو محلل سياسي، بأنه يعتقد أن سبعة فصائل من مختلف الأطياف جنت أرباحًا من عملية السرقة. وقال: "المدعومون من إيران، والمدعومون من الولايات المتحدة، والذين يسمون أنفسهم إصلاحيين، والمؤيدون للوضع الراهن -كل الفصائل تستفيد من مخططات الفساد.

 

هؤلاء الخصوم يقاتلون بعضهم البعض في العلن لكنهم يعملون سويًا لإثراء أنفسهم، بغض النظر عن المواقف السياسية والأيديولوجية". وأشار مستشار غربي في بغداد إلى أن بعض قادة الميليشيات الذين يتقاتلون فيما بينهم يرسلون أبناءهم إلى نفس مدارس بغداد الحصرية. وقال: "إنها نخبة تتقاسم الغنائم. لا يوجد أشخاص طيبون".


في ظل غموض السياسة العراقية، بدا أن قنبر، المحقِّق السويدي العراقي، كان دائمًا منارة للوضوح. وقد تحدث بدقة، وبمصطلحات محسوبة. والناسُ الذين احترمهم احترموه. (وصفه علي علاوي، وزير المالية الأسبق، بأنه "ربما الشخص الوحيد الصادق المتبقي في العراق"). كانت غرابته محببة -كانت خلفية شاشة حاسوبه المحمول عبارة عن صورة أحجية لـ"مدرسة ستوكهولم للاقتصاد"، بقطعة واحدة مفقودة.


ومع ذلك، عندما تعمقتُ في القضية، لم يبدُ أن معرفة بعض الأشياء حول قنبر تضيف شيئًا. كان من المفترض أنه مصمم على استئصال الفساد، لكنه أظهر احترامًا كبيرًا لإحسان عبد الجبار، وزير المالية الذي وظفه.

 

وقد أربكني ذلك حين أخبرني العديد من الأشخاص بأن عبد الجبار نفسه كان قد تم القبض عليه في قضايا فساد مزعومة في الماضي عندما كان في وزارة النفط. (قال عبد الجبار أن تلك القضايا أقامها شخص يحمل ضغينة ضده، وأن 90 في المائة منها تم إغلاقها).


في بعض الأحيان، قدم قنبر إجابات تفصيلية على أسئلتي حول القضية حتى شعرت بأنني  أستعيد تحقيقه في الوقت الفعلي. وفي أوقات أخرى كان متحفظًا بشكل غير مفهوم. لم أفهم أبدًا عدم اهتمامه الواضح بالوجهة النهائية التي ذهبت إليها الأموال المسروقة. كان يقول بلا مبالاة: "أنا لم أتابع".


ثم، في حزيران (يونيو)، ظهرت رسالة بريد إلكتروني مقلقة في صندوق بريدي الوارد. قام باحث عراقي في واشنطن بتجميع ملف قصير لمواد لم يتم التحقق منها عن الكاظمي وقنبر وآخرين. وعنى هذا أنهم كانوا جزءًا من شبكة "مكّنت" من السرقة. ووفقًا للملف، لم يكن قنبر بالضبط ذلك الطرف الخارجي الذي ظننتُ أنه يكونه -كان زوج والدته هو مُرشد الكاظمي. وأشار الملف إلى أن قنبر لعب دورًا في تعيين المدير العام لمصرف الرافدين قبل وقت قصير من وقوع السرقة. وفي تطور سريالي، ادعى الملف أيضًا أن رجلاً قيل إنه قُبض عليه ذات مرة بسبب صلة بعملية احتيال سابقة في مصرف الرافدين كان ابن عم قنبر.


التقينا بعد يومين في مقهى بالقرب من شارع أكسفورد في لندن. وظلت قدرة قنبر على التحمل خلال مناقشة العناصر التقنية للأعمال المصرفية، تغذيها أكياس النيكوتين وأكواب الكابتشينو، سليمة. ولكن عندما ذكرتُ المزاعم التي يتم تداولها، اكتسبَت عباراته اللطيفة نبرة أكثر حدة. قال إنه كان على دراية جيدة بوجود هذا الملف، الذي وصفه بأنه مسلٍّ، على الرغم من أنه لم يكن يبدو متسليًّا كثيرًا. ورفض مزاعم الملف ووصفها بأنها "مختلقة".


ومع ذلك، اتضح أن بعض هذه المزاعم كان صحيحًا. اعترف قنبر بأنه كان يعرف الكاظمي جيدًا، لكنه أصر على أنه لم يكن ينسجم مع زوج والدته، وأنهما لم يكونا جزءًا من عصبة سرية مريحة. كان قد تورط في تعيين موظفين جددًا في مصرف الرافدين بعد فضيحة سابقة، لكنه لم يكن الشخص الذي يتخذ القرار الوحيد بشأن التعيينات.

 

ولم يجادل قنبر في حقيقة أن حميد النجار، الرجل المرتبط بقضية الاحتيال السابقة، هو ابن عمه. في الواقع، كان قد حاول أن يؤسس معه بنكًا قبل أن تبدأ المتاعب القانونية للنجار. وقال لي إنكَ إذا كنت ترغب في القيام بأعمال تجارية في العراق، فإنه لا يكون لديك الكثير من الخيار بشأن نوعية الأشخاص الذين تعمل معهم.


جعلني اللقاء أشعر بالتعاسة. لطالما أحببتُ قنبر. لم يشكك أحد في نتائج تقريره. ولم يكن استعداده لإخضاع نفسه لأسئلة صحفي في أي ساعة من ساعات اليوم سلوك شخص لديه شيء ليخفيه. بدا قلقًا بصدق على سلامته إذا عاد إلى العراق، وهو شيء لم يكن ليقلق أي شخص لديه أصدقاء أقوياء ونافذون. ("أنا مجرد منديل ورق. سوف يرمونني هكذا"، قال، وهو ينفض معصمه). لكن المقابلة لم تبدد إحساسي بأن هناك الكثير الذي لم أكن أعرفه بشأنه. بدا قنبر مكتئبًا أيضًا. وقال بضجر ونحن نختتم الحديث: "عندما أفكّر في الأمر الآن، أعتقد أننا أضعنا ستة أشهر من حياتنا".


من المؤكد أن الشعب العراقي لم يعبر عن أي تقدير لعمله. وعلى الرغم من أن عبارة "سرقة القرن" انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي العراقية، فإنه لم يكن هناك الكثير من الضغط من أجل تقديم مرتكبيها إلى العدالة. في العام 2019، خلال آخر مظاهرة كبيرة ضد الفساد، أطلقت القوات الأمنية الذخيرة الحية على الحشد. وربما يكون العراقيون قد سئموا من الاحتجاج. أخبرني بعض الناس أن السرقة ربما تكون مفيدة للعراق، لأنها ضخت أموالاً كانت هامدة في دورة الاقتصاد. وقال رجل أعمال عراقي: "من الأفضل إنفاقها في بغداد على تركها في حساب (بنكي)".


بدت بغداد في ربيع هذا العام أكثر إشراقًا مما رأيتها في أي وقت مضى. عندما زرت العراق لأول مرة في الأشهر الأخيرة من زمن ديكتاتورية صدام، كانت المدينة كئيبة ساكنة. وكانت مبانيها ظلًا للصحراء التي تحيط بالمدينة.


الآن أصبحت بغداد مدينة تضج بالألوان. المباني السكنية الجديدة تنتشر في كل مكان. المطاعم تُفتتح. والأرصفة التي كانت الدبابات وعربات الهامفي الأميركية قد حولتها إلى غبار أعيد بناؤها أخيرًا. وأضرحة الأولياء الشيعة، التي كانت مبنية من الآجر العاري في عهد صدام، أصبحت تتلألأ بآلاف القطع الكريستالية. على الأقل، يمكن أن تكون بعض الأموال التي تغذي كل هذا التغيير قد تسربت من السرقة. ليست سرقة بنك دولة وإنفاق الأموال منها آلية عادلة أو خاضعة للمساءلة لتوزيع الثروة -لكنها سريعة بالتأكيد.


الآن، يبدو من غير المحتمل أن يمثُل أي من المستفيدين الحقيقيين من السرقة، أياً كانوا، أمام العدالة. وتعني رائحة الذنب التي تتعلق بالنخبة السياسية بأكملها أنها لن تكون هناك الكثير من المساءلة للأفراد.

 

وعلى الرغم من أن مكتب السوداني يصر على أنه يتابع التحقيق بقوة وبلا تهاون، فإنه لم يُصدر سوى القليل من الإعلانات منذ مؤتمره الصحفي في العام الماضي. وقال لي الكاظمي بينما ننتهي من شرب أكواب الكوكتيل في لندن: "لنكن واقعيين. سوف تتلاشى هذه الأموال بطريقة ما في الهواء. سوف تختفي، تختفي". (انتهى)

‏*نيكولاس ‏‏بيلهام‏‏ Nicolas Pelham: مراسل ‏‏مجلة الإيكونوميست‏‏ في الشرق الأوسط. بدأ العمل في القاهرة كمحرر لصحيفة "ميدل إيست تايمز"، ومنذ ذلك الحين أمضى 30 عامًا في الدراسة والسفر والكتابة في المنطقة. وهو مؤلف كتب ‏‏ "‏‏نظام إسلامي جديد‏‏" (2008)، و‏‏"تاريخ الشرق الأوسط‏"،‏ مع بيتر مانسفيلد (2012)، و‏‏"‏‏الأراضي المقدسة"‏‏ (2016) الذي يستكشف الماضي التعددي للمنطقة‏‏. أخذ فترات للاستراحة من حين لآخر من الصحافة، وعمل كمحلل لشؤون الشرق الأوسط في مجموعة الأزمات الدولية والأمم المتحدة والمعهد الملكي للشؤون الدولية. في العام 2017 ‏‏فاز بجائزة جيرالد لوب للصحافة المتميزة.‏


*نشر هذا التحقيق تحت عنوان: The Baghdad job: who was behind history’s biggest bank heist?

ملاحظات المترجم:
*‏"1843"‏‏ (‏‏"الحياة الذكية"‏‏ سابقًا): مجلة ‏‏رقمية شقيقة‏‏ تنشرها ‏‏مجلة "الإيكونوميست"،‏‏ وتتميز ‏‏بالصحافة السردية‏‏ الطويلة، بالإضافة إلى قراءات وأعمدة أقصر.‏‏ سميت على اسم العام الذي تأسست ‏‏فيه مجلة الإيكونوميست‏‏، ‏‏1843. وهي‏‏ تقدم منظورًا تكميليًا للمجلة الشقيقة، مع التركيز بشكل أكبر على السرد بدلاً من التحليل. مثل ‏‏"الإيكونوميست"‏‏، يقع مقر مجل "‏‏1843"‏‏ في ‏‏لندن‏‏ ولديها قراء عالميون. وهي، مثل المجلة الشقيقة، مملوكة لـ"مجموعة ‏‏الإيكونوميست‏"، وهي شركة إعلامية بريطانية قابضة.‏
**جبل كليمَنجارو، أسماه العرب "جبال القمر"، أو "شيطان البرد" بالسواحلية، هو الجبل الأكثر ارتفاعًا في إفريقيا. يقع  في شمال شرق تنزانيا بالقرب من الحدود الكينية، ويتألف من ثلاثة مخاريط بركانية، هي كيبو (أعلى القمم) وماوينسي وشيرا. ويعتبر الجبل أقرب نقطة تغطيها الثلوج من خط الاستواء.

 

اقرأ المزيد في ترجمات:

المهمة البغدادية: من كان وراء أكبر سرقة مصرفية في التاريخ؟ (1 - 2)