فوزي الزبيدي* - (معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى) 25/1/2023
على الرغم من صعوبة إجراء إصلاحات هيكلية في الأجهزة الأمنية العراقية، إلا أن هذه الإصلاحات تظل ضرورية لتعزيز الأمن القومي للبلاد.
* * *
تشكل إعادة هيكلة
مؤسسات الأمن القومي العراقي، التي تشمل (قيادة العمليات المشتركة، ووزارة الدفاع، ووزارة الداخلية، وجهاز المخابرات، وجهاز مكافحة الإرهاب، وجهاز الأمن الوطني، والاستخبارات العسكرية، ومستشارية الأمن القومي، وقيادة عمليات بغداد) أحد أبرز التحديات التي تواجه حكومة السوداني اليوم.
ولذلك، لا بد من وضع سياسات جديدة وإجراء إصلاحات جذرية لتلك المؤسسات حتى يشعر المواطن العراقي بسيادة الدولة وهيبة سلطانها وإنفاذ قوانينها، وليسهم ذلك في عودة العراق الى الساحة الإقليمية كركيزة مهمة في الأمن والاستقرار الإقليميين.
لذلك، وحتى يتسنى تحديد الاستراتيجيات والحلول العملية اللازمة لتطوير هذه المؤسسات سياسياً وتنظيمياً، من الضروري للغاية أن يتم أولاً فهم نقاط الضعف وأسباب الفشل الحالية لهذه المؤسسات كما هي موجودة اليوم.
تعاني المؤسسات الأمنية الحالية في العراق من عدد من المشكلات التي يمكن إرجاع الكثير منها إلى التقاليد الطائفية والمحسوبية المتفشية في السياسة العراقية؛ فأغلب المؤسسات الأمنية تم تسيسها حيث تقوم الأحزاب الحاكمة بترشيح قادة تلك المؤسسات في الانتخابات، وبحسب الوزن الانتخابي للكتل السياسية في البرلمان العراقي، وبالتالي يضطر قادة هذه الأجهزة إلى تنفيذ أجندة الأحزاب التي رشحتهم لهذه المناصب على حساب الوطنية والمهنية التي يفترض أن يتسم بها عمل هذه المؤسسات.
وعلاوة على ذلك، لا توجد منافسة مهنية بين هذه المؤسسات لتحقيق أهداف استراتيجية الأمن القومي العراقي (الغائبة عن التفكير والتخطيط والتنفيذ منذ نشأة الدولة العراقية في العام 1921 وحتى الآن)، بل إن هناك منافسة على الصفقات والعقود والميزانيات المالية.
فعلى سبيل المثال، لا ترغب وزارة الدفاع بتشجيع التصنيع العسكري العراقي استجابة لرغبة تجار السلاح الذين يقدمون عمولات سخية لهذه الوزارة من أجل إبقاء العراق في حالة الاستيراد من الخارج.
وعلاوة على ذلك، لا يتمتع أغلب قادة المؤسسات الأمنية العراقية بالقدر اللازم من الكفاءة، وهو ما انعكس بطبيعة الحال على ضعف مستوى الأداء الذي لا يتجاوز الخبرات العسكرية التقليدية والمحدودة لدى أفضل القادة.
وعلى سبيل المثال، يقود مفاصل وزارة الداخلية في عهد السوداني ضباط عسكريون لا باع لهم في العمل الأمني والقانوني والشرطي! وجهاز المخابرات كان يقوده قاضي جنايات لا خبرة له في العمل الاستخباري.
ونتيجة لذلك، لم ترتق سياسات الأمن القومي العراقي إلى مستوى المبادرة منذ العام 2003 وحتى يومنا هذا. وبدلاً من ذلك، بقي هذا الأداء مجرد رد فعل على كل فعل.
ففي مجال مكافحة الإرهاب مثلاً، بقيت خدمات مكافحة الإرهاب غير مرضية على أقل تقدير، إذ ما يزال أفضل جهاز متخصص، (جهاز مكافحة الإرهاب)، ينتظر معلومات (إحداثيات) حول مواقع تواجد خلايا داعشية لينقض عليها ويعلن عن عملية نوعية ضد الإرهاب، وينسى أن مفهوم مكافحة الإرهاب أوسع وأشمل من أن يقتصر على عمليات قتالية صغيرة ومحدودة، بل يتعداها إلى تجفيف منابع تمويل الإرهاب، ومكافحة الخطابات المتطرفة، وتفكيك الظروف التي تساعد على انخراط الشباب في صفوف الإرهاب، وكيف يتم تأهيل (عوائل الإرهاب) ودمجها في المجتمع من جديد.
ولكن، لم يُلمس أي دور لجهاز مكافحة الإرهاب سوى في نطاق العمليات القتالية.
إضافة إلى ذلك، لم تسلم المؤسسات الأمنية من تفشي ظاهرة الفساد التي عمت جميع مفاصل الدولة العراقية بلا استثناء بسبب المحاصصة الحزبية لمناصب هذه المؤسسات، وغياب الدور الرقابي والمحاسبة القانونية الحقيقية، حيث ترتب على تغلغل الفساد في هذه المؤسسات، تراجع البنية التحتية من التقنيات والأسلحة والاجهزة المتقدمة التي تتطلبها عمليات الأمن القومي، بسبب سوء توزيع المناصب القيادية العليا والوسطى، الذي كان من أبرز نتائجه عدم القضاء على خلايا "داعش" بشكل كامل حتى الآن، رغم كل الإنجازات.
استناداً إلى ما سبق، يتطلب برنامج إعادة هيكلة مؤسسات الأمن القومي العراقي عدة خطط سياسية، أهمها حصول رئيس الوزراء العرافي الجديد على توافق سياسي عام من جميع الكتل السياسية حول تفويضه بإصلاح المنظومة الأمنية جذرياً، من دون أدنى اعتبارات حزبية أو محاصصاتية.
ويساعده على ذلك كونه يمثل الكتلة السياسية الكبرى داخل مجلس النواب العراقي. وعلى المستوى التشريعي، هناك ضرورة لوضع قانون وطني جديد لمستشارية الأمن القومي يوضح صلاحياتها ومسؤولياتها وأهداف بدقة متناهية، ويوضح أيضًا مواصفات قادة أجهزة الأمن القومي ومؤهلاتهم، ومتطلبات استراتيجية الأمن القومي العراقي، وكذلك آليات التنسيق وتشارك المعلومات بين أجهزة الأمن القومي.
على المستوى التقني، يجب الاستعانة بكفاءات شبابية عالية المستوى في تخصصات نادرة في مجال الذكاء الاصطناعي والهاكرز والقرصنة وجميع مكونات الإنترنت بنوعيه، العميق والمظلم، وتخصيص أقسام خاصة بهم يشرف عليها خبراء في استخبارات المصادر المفتوحة.
كما يجب وضع نظام رقمي خاص (مشفر) لتشارك المعلومات وتلبية الطلبات بين أقسام الأجهزة الأمنية، ونظام آخر لإنتاج التحذيرات الحساسة والعاجلة، مع نظام إضافي لآليات متطورة في عملية اتخاذ القرار في ظروف الأزمات والكوارث.
كما أن هناك أيضًا ضرورة لتدشين أقسام للعمليات القتالية الخاصة والأمن السيبراني في جهاز المخابرات والأمن الوطني والاستخبارات العسكرية ومكافحة الإرهاب، مع وضع آلية قيادية موحدة لكل هذه الأقسام عبر تنسيق مشترك.
يجب أيضًا أن يتم انتقاء القادة الأمنيين وفقًا لمؤهلاتهم وخبراتهم الأمنية، التي تتوافق مع متطلبات المنصب وليس وفقاً لخلفياتهم العسكرية، بحيث يكون الناتج في المجمل أن هذا القائد لديه تناسبية عالية جدًا مع هذا المنصب، وأنه سيشكل إضافة جديدة في أداء الجهاز الأمني الذي سيتولى مهام إدارته.
وينبغي أيضًا تدشين نظم جديدة لما يعرف في العراق بـ"أمن الدائرة" في جميع أجهزة الأمن القومي، والتي تعتمد على تقنيات حساسة ومتطورة لتحقيق أمن الأفراد وأمن الوثائق وأمن المقرات بمستوى عالٍ من الحرفية، مع وضع نظم لاختبار الأفراد للتأكد من الولاءات والقدرة على الاحتفاظ بالأسرار.
وأخيراً، تبدو ظاهرة عدم التوافق السياسي والصراعات السياسية، وضبابية المستقبل السياسي لحكومة السوداني، والفساد المستشري في العراق، وترهل النظام الإداري في البلد، وغياب التنسيق الاحترافي بين مؤسسات الأمن القومي، من أهم العوائق التي تقف أمام حكومة السيد السوداني.
وعلى الرغم من أن هذه الإصلاحات بطبيعتها واسعة النطاق ومعقدة، إلا أنها ستحدد ما إذا كان الأمن القومي العراقي سيغرق أو يعوم وسط سياقات إقليمية وعالمية متزايدة التعقيد والقسوة.
*د. فوزي الزبيدي: خبير استراتيجي وباحث مقره دولة الإمارات العربية المتحدة، وهو متخصص في عمليتي التحليل السياسي والتخطيط الاستراتيجي لسياسات الأمن القومي، ولديه خبرة معمقة في الشأنين العراقي والإيراني والقضايا ذات الصلة، وتشمل أحدث إصداراته "أصول التحليل السياسي"، و"مبادئ تقييم البيئة الاستراتيجية".
اقرأ أيضا في ترجمات
اضافة اعلان