إيريك مين* - (إندبندنت عربية) 3/8/2024
في شهر أيار (مايو) الماضي، اقترح الرئيس الأميركي جو بايدن خطة من ثلاث مراحل لإنهاء حرب غزة، تشمل وقفاً موقتاً لإطلاق النار ومفاوضات لإحلال السلام وإعادة الإعمار.
لكن هذا المقترح فشل مثل غيره من المبادرات السابقة، نظراً لرفض الأطراف المتنازعة وتعقد الظروف الميدانية. وبشكل عام، نادراً ما يحقق إجبار الأطراف المتنازعة على التفاهم النجاح، وأحياناً يأتي بنتائج عكسية.
***
في 31 أيار (مايو) الماضي، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن مقترحاً من ثلاث مراحل لإنهاء الحرب في قطاع غزة. ودعا في المرحلة الأولى إلى وقف إطلاق نار موقت يتضمن انسحابات جزئية للقوات الإسرائيلية، وتبادل محدود للرهائن (والمعتقلين) وتدفق المساعدات. وبعدها تبدأ المفاوضات التي تفضي -في حال نجاحها- إلى المرحلة الثانية من المقترح، التي تتضمن وقفاً دائماً للأعمال العدائية وتلزم بانسحابات كاملة وإتمام صفقة تبادل الرهائن والأسرى كاملة. أما المرحلة الأخيرة، فتشهد بداية جهود إعادة الإعمار في غزة، وتبادل جثث الرهائن الإسرائيليين.
على الرغم من الضجة التي رافقت الإعلان عن هذا المقترح، فإنه لم يكن سوى واحد من مقترحات عديدة صيغت منذ بداية الحرب. وسبق لإسرائيل و"حماس" في الحقيقة أن رفضتا خططاً مماثلة تقدمت بها كل من مصر وقطر. وعلى غرار المقترحات الأخرى السابقة باءت خطة بايدن بالفشل. وعلى الرغم من أن تلك المبادرات المتبلورة عبر وسطاء لم تنجح في صياغة حل سلمي، فإنها تمثل محاولات لوضع حد للمعاناة المستمرة بفعل الحرب.
ولا ضرر من المحاولة، أو أن المحاولة هي في الواقع مضرة. ويظهر التاريخ الموثق أن هكذا تدخلات دبلوماسية غالباً ما تسفر عن تداعيات سلبية للغاية. لم تتمكن القوى الخارجية أبداً تقريباً من فرض اتفاقات لوقف إطلاق النار والتي يمكن أن تدوم من دون دعم الأطراف المتنازعة نفسها. ولعل المقلق أكثر في هذه المسألة هو أن الجهود الخارجية المبذولة بغية تيسير الحلول الدبلوماسية ربما يمكن أن تفاقم الحرب.
وبدلاً من إحلال السلام، ثمة احتمال مقلق لأن تؤدي الجهود الدبلوماسية التي تبذل من دون الأخذ بعين الاعتبار ما يحصل على أرض المعركة في الحقيقة إلى تأجيج النزاع.
وبذلك، يمكن القول إن على الولايات المتحدة وحلفائها الضغط على "حماس" وإسرائيل لتبديل طرقهما في خوض الحرب بدلاً من السعي إلى فرض مفاوضات من دون أن يظهر أي من الطرفين المتنازعين رغبة في التسوية.
الخوف من التفاوض
يرى عدد من الأكاديميين البارزين، من أمثال روبرت باول وبرانيسلاف سلانتشيف، أن المفاوضات خلال النزاع هي عملية يمكن أن تسفر عن مجموعة من النتائج. على أحد طرفي المعادلة، قد ينجح الطرفان المعنيان بالنزاع في التوصل إلى اتفاق مقبول لديهما يكون من شأنه أن ينهي الصراع. وفي منتصف المعادلة، يمكن للطرفين تحديد مجالات محدودة للتسوية فيما يستمر النزاع على ضوء مجموعة أضيق من الخلافات.
أما على الطرف الآخر من المعادلة، فقد يفشل طرفا النزاع في التوصل إلى أي أرضية مشتركة ويستمر النزاع وكأن شيئاً لم يكن. وفي جميع هذه الاحتمالات، تبقى المفاوضات مجهوداً غير مكلف -إما أن يحسن الوضع، أو في أسوأ الحالات، ألا تغير بالوضع القائم.
ولكن يمكن أن تكون للمفاوضات كُلف. وتتمثل إحدى الكلف في أن القادة غالباً ما يشعرون بالقلق من أن يجري تفسير الرغبة بالتفاوض على أنها علامة ضعف أو تراجع في العزيمة أو اهتمام بالتقاضي من أجل السلام.
ويمكن لمثل هذا التأويل تقويض المعنويات في الداخل أو تحفيز العدو على القتال بشراسة أكبر لأنه بات يعتقد أن النصر، أو تحقيق مكاسب إضافية على الأقل، أصبح في متناول اليد. هذا الخوف عبر عنه في العام 1965 الرئيس السابق لهيئة الأركان الأميركية المشتركة ثم السفير في فيتنام الجنوبية، ماكسويل تايلر. وقد حذر تايلر واشنطن من المبادرات الدبلوماسية تجاه فيتنام الشمالية لأن "التسرع في الذهاب إلى طاولة المفاوضات قد يحفز تصاعداً في جهود الفيتكونغ الهادفة إلى تحقيق أقصى ميزة تفاوضية ممكنة، ما دامت هانوي وبكين مستعدتين لتفسير حماستنا للتفاوض على أنها علامة ضعف".
وكذلك أبدى المسؤولون الفيتناميون الشماليون مخاوف مماثلة، فقالوا للسفير النرويجي لدى بكين في العام 1967، إنه كلما كانت هانوي تظهر رغبة في التفاوض، كانت الولايات المتحدة تشن هجمات جديدة. وبذلك، لم تبدأ مفاوضات السلام إلا في العام 1968 حين شعر الطرفان بأنهما أظهرا قوتهما من خلال العمليات التي نفذاها في الميدان.
وقد أدرك المسؤولون في واشنطن وهانوي، على حد سواء، أن الشروع في المفاوضات بشكل عشوائي يمكن أن يؤدي إلى قتال أعنف ومزيد من التردي في العلاقات بين الطرفين المتحاربين.
وبكلمات الوكيل السابق لوزارة الدفاع الأميركية في الشؤون السياسية، فريد إيكلي، والأستاذ في جامعة جورج تاون بول بيلار، قد تسفر المفاوضات عن "آثار جانبية"، بصرف النظر عما إذا أثمرت اتفاقاً أم لا.
مما لا شك فيه، في هذا السياق، أن الوقائع على أرض المعركة يمكن أن تفسح المجال للمفاوضات. إن خوض الحرب يكشف عن قوة كل طرف مشارك فيها، وكذلك مدى استعداده لاستيعاب كلف حل النزاع بشروط تناسبه. وتسهم معطيات القتال المستجدة في مساعدة جميع الأطراف على مراجعة توقعاتها، ويمكنها أن تؤدي إلى فهم موحد لمسار الحرب.
وتوفر توجهات ميدان القتال المستدامة التي تكون باستمرار ووضوح لمصلحة طرف واحد، الطريق الأفضل نحو المفاوضات كما أظهرت الحرب الروسية - اليابانية بين العامين 1904-1905.
فقبل أن تشن اليابان عملياتها العدائية، كان قليلون يتوقعون أن تلحق هزيمة حاسمة أو هزائم متكررة بروسيا في ساحة المعركة، غير أن هذا هو ما حصل تماماً. وقادت سلسلة الانتصارات اليابانية الحثيثة في أرض المعركة الرئيس الأميركي تيودور روزفلت إلى لعب دور الوسيط بطلب من طرفي النزاع، والتفاوض على "معاهدة بورتسماوث" التي منحت اليابان معظم مطالبها.
أما توجهات جبهات القتال غير المتوازنة، فلا تضمن فتح المجال أمام الدبلوماسية إذا كان كل طرف من المتنازعين عاجزاً عن الوثوق بالآخر من ناحية احترام التسوية السياسية، أو إذا كان طرفا النزاع عاجزين عن الوثوق بطرف ثالث لإنفاذ شروط التسوية.
في أحلك لحظات الحرب العالمية الثانية، عندما قامت ألمانيا بغزو أوروبا باستخدام استراتيجية الحرب الخاطفة بين العامين 1940 و1941، رفضت بريطانيا ودول أخرى التفاوض مع الزعيم الألماني أدولف هتلر لأنها لم تر أي سيناريو يمكن أن يلزم هتلر جدياً باتفاق سلمي، أو أن يبقي هكذا اتفاق منيعاً.
وفي نهاية المطاف، كشفت سياسة الاسترضاء التي انتهجت قبل الحرب أنه لا يمكن الوثوق بوعود هتلر. وكان الحل الوحيد المتاح لمعالجة الأزمة يتمثل في القضاء على هتلر أو الموت خلال محاولة القضاء عليه.
كما يمكن للمؤسسات الدولية ولأطراف ثالثة (وسيطة) أن تضغط على الجهات المتنازعة بطرق تجبرها على انتهاج السلام، حيث يمكن للأطراف التعبير عن استعدادها للتفاوض كبادرة تعاون مع المجتمع الدولي وليس كعلامة تشير إلى تراجع العزيمة. ويسمح لها ذلك بالظهور بمظهر المعتدل وأن تجعل خصمها يبدو وكأنه هو المتعنت.
وقد عاينّا المثل على هذا خلال "حرب سينيبا فالي" Cenepa Valley War بين الإكوادور والبيرو سنة 1995، عندما اقترح رئيس الإكوادور سيكستو دوران بالين على مجلس أمنه القومي أن يطلب مساعدة دبلوماسية من الأرجنتين والبرازيل وتشيلي والولايات المتحدة الأميركية كي تبدو الإكوادور طرفاً منفتحاً وحسن النية.
وفي السياق لا يمكن للضغط الدبلوماسي أن يجعل التفاوض أقل خطورة وحسب، بل يمكنه أيضاً أن يجعل الموقف الرافض للمفاوضات موقفاً مكلفاً.
وفي نزاعات عديدة، بما فيها نزاعا أوكرانيا وغزة، تمكنت أطراف ثالثة مدعومة بمؤسسات دولية مثل الأمم المتحدة من إقناع طرفي النزاع بالتفاوض بينما كان القتال متواصلاً. وليس من قبيل المصادفة هنا أن يكون معدل الوقت الذي خصص للمحادثات بينما القتال يستعر أعلى بمقدار الضعف تقريباً بين العامين 1947 و2003، مما كان عليه بين العامين 1823 و1945، عندما تأسس النظام السياسي الدولي بعد الحرب العالمية الثانية.
لعبة الخداع
هناك اعتقاد خاطئ آخر بشأن التفاوض يتمثل في النظر إليه على أنه يحدث دائماً بنية حسنة. وحتى لو لم يتوصل المتنازعون إلى تسوية، يسود الاعتقاد بأنهم بذلوا محاولة صادقة للتوصل إلى توافق متبادل. لو كان هذا صحيحاً، فإنه قد لا يكون هناك ضرر من المحادثات والمفاوضات، بيد أن الواقع أشد تعقيداً. يمكن للمتخاصمين التفاوض بنوايا سيئة، وهم غالباً ما يفعلون ذلك، حيث يظهرون اهتماماً بالتسوية فيما يسعون في الحقيقة إلى إفشال المحادثات.
ويمكن للمتخاصمين غير الصادقين استخدام الوقت الذي يكسبونه من خلال التحادث والمفاوضات لإعادة التسلح وتنظيم الصفوف، وتفادي اللوم السياسي عن الحرب، أو لممارسة الدعاية السياسية. وفي هذه الحالة يصبح التفاوض طريقة لخوض الحروب، وليس لإنهائها.
شاهدنا هذه الديناميكيات بين العامين 1951 و1953 خلال المحادثات في كايسونغ وبانمونجوم لإنهاء الحرب الكورية. وقد أشار ويليام فاتشير، الطبيب النفسي الرئيس الذي عمل في ذلك الحين ضمن وفد "قيادة الأمم المتحدة" (UNC)، إلى أنه بسبب "فشل كوريا الشمالية والصين في تحقيق أهدافهما على أرض المعركة في كوريا، توجهتا إلى طاولة المحادثات كوسيلة لتحقيق تلك الأهداف... ولاكتساب وقت ثمين تقومان خلاله بإعادة بناء قواتهما وتعزيزها، والسعي إلى اغتنام أي مكاسب ممكنة من قيادة الأمم المتحدة، واستخدام المفاوضات منصة لدعايتهما السياسية".
كذلك قامت الهيئة الأميركية التي ترأس وفد قيادة الأمم المتحدة بممارسة الممطالة خلال تلك المحادثات كي تُظهر للحلفاء أنها تعطي فرصة للدبلوماسية، بينما تخلق في الواقع فسحة سياسية أكبر لاستمرار القتال.
يكون التفاوض أكثر صدقاً عندما يشعر طرف في النزاع بانعدام الخيارات الأخرى أمامه، عندما تكشف ساحة المعركة بوضوح النتيجة المرجحة للحرب. وعندما يحصل ذلك، سيقوم طرف في النزاع من تلقاء نفسه بالسعي إلى التفاوض على الرغم من خطر أن يبدو ضعيفاً.
ومن دون هذه العوامل -ومع استمرار الأمل بالنصر- يكون المتحاربون أكثر ميلاً إلى التفاوض بخبث. ومن هنا يمكن القول إن إجبار المتخاصمين على التفاوض قبل أن يكشف ميدان المعركة مسار الصراع (ونتيجته المرجحة)، قد يأتي بنتائج عكسية، ويسفر عن حاصل يؤدي إلى الإضرار بالتسوية.
هذا هو الخطر القائم في حرب غزة. إسرائيل و"حماس" ليستا مستعدتين راهناً للوصول إلى اتفاق مقبول من الطرفين.
وقد تنجح التوافقات فقط عندما تصبح جميع الأطراف مستعدة للقبول بالشروط نفسها وعندما ترى جميع الأطراف أن تلك الشروط ستطبق.
والآن لا يتوافر أي من هذين الشرطين. بل على النقيض من ذلك، لم يتزعزع الهدف الأساس للطرفين منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر)؛ حيث حماس تريد البقاء ككيان سياسي وعسكري وإسرائيل تريد القضاء عليها.
وبغض النظر عن أي تغييرات محتملة في مواقف الطرفين في ما يتعلق بوجود القوات الإسرائيلية في غزة أو حق العودة الفلسطينيين، أو قابلية حل الدولتين -وهما في حد ذاتهما من المسائل المستعصية- فإن المواقف المتعارضة جذرياً بشأن مستقبل "حماس" لا تتيح مجالاً لأي اتفاق.
الطريق المسدود
تميل الأطراف المتحاربة إلى الاعتقاد بأن أي اتفاق سلام لن يدوم إلا عندما يكون طرف واحد على الأقل أضعف من أن يواصل القتال، أو عندما يرى طرفا النزاع أن أي محاولة للتراجع عن اتفاق قائم قد تؤدي إلى عواقب وخيمة. إلا أن هاتين الحالتين غير متوافرتين اليوم في غزة.
فعملية رفح التي انطلقت مطلع أيار (مايو) الماضي والمصممة لتقويض "حماس"، لم تحقق أهدافها. "وحماس" ما تزال مستعدة للقتال على ما يبدو وليس مطلبها المتشدد حتى تموز (يوليو) الماضي والداعي إلى انسحاب إسرائيلي شامل من غزة إلا لتأكيد هذه الحقيقة.
وكذلك أسهمت هجمات إسرائيل ضد المدنيين الفلسطينيين في زيادة الدعم السياسي لـ"حماس"، والذي قد يتعزز في الواقع فيقلص من احتمالية التزام أعضاء هذه الحركة بأي صفقة أو اتفاق.
تواجه كل من إسرائيل و"حماس" ضغوطاً كبيرة ومتواصلة للتفاوض، مما يدفعهما إلى -إن لم نقل يجبرهما على- التظاهر بالاهتمام بالدبلوماسية. وقد ردت "حماس" على المقترح الذي قدمه بايدن في 31 أيار (مايو) الماضي بقولها إنها تود العمل "بشكل إيجابي وبطرق بناءة" للتوصل إلى وقف لإطلاق نار. وفي بيان مكتوب نشر بعد أسبوع أعادت الحركة تأكيد "موقفها الإيجابي من تصريحات بايدن". وهذه اللغة الإيجابية لا تعبر عن رغبة "حماس" الصادقة في التوصل إلى اتفاق. بل إنها على العكس من ذلك تعكس إدراك الحركة أن إعلان بايدن صُمم لكي يلقي اللوم عن الاستمرار في الحرب على "حماس".
ويشير اقتراح صيغ مختلفة قليلاً من الخطة نفسها المكونة من ثلاث مراحل وقبولها ثم رفضها على مدى أشهر عدة، على الرغم من تبدل الوقائع السياسية والميدانية، إلى أن الجهود الدبلوماسية مدفوعة بشكل أساسي برغبة طرف ثالث في وقف القتال، وليست مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بظروف الأطراف المتنازعة الحقيقية أو المتصورة.
وإذا دُفعت هذه الأطراف إلى الانخراط في الدبلوماسية من دون حل نقاط الخلاف الجذرية العالقة بينها، فإنها قد تستغل المحادثات والمفاوضات لمصالحها السياسية والعسكرية الخاصة.
على سبيل المثال، يمكن لطرف من طرفي النزاع أن يوافق أو يدعي الموافقة على شروط من غير المرجح أن يقبلها الطرف الآخر، على الرغم من أنها قد تبدو منطقية للمراقبين الخارجيين. وهذه العملية تسمح لطرف واحد أن يكسب تأييداً سياسياً دولياً عبر إلقاء المسؤولية عن استمرار النزاع على الطرف المنافس، وبالتالي تبرير الاعتداءات المستمرة والمتصاعدة.
وبالإضافة إلى ذلك، سوف يوفر أي توقف مؤقت للعمليات القتالية بسبب المفاوضات فرصاً أخرى لإعادة حشد القوات والاستعداد لاستئناف الأعمال العدائية، كما حصل خلال الحرب العربية - الإسرائيلية الأولى. فخلال تشرين الأول (أكتوبر) 1948، وبعد خمسة أشهر من بداية الصراع، أسهم الوفد الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة بالمساعدة في صياغة قرار مجلس الأمن رقم 62، الذي دعا جميع المتحاربين إلى إعادة الأرض التي احتلوها والانسحاب إلى مواقعهم التي كانوا فيها قبل أسبوعين من اندلاع الحرب، وذلك بموازاة دعوة إلى مزيد من المفاوضات.
ولم تكن إعادة الأمور في ساحة المعركة إلى ما كانت عليه قبل أسبوعين لتعني الكثير لإسرائيل، لأنها كانت قد حققت مسبقًا مكاسب مهمة في الأرض آنذاك.
ومع ذلك، أيد المسؤولون الإسرائيليون القرار الأممي لأنهم توقعوا، محقين، أن الدول العربية سترفضه، وبذلك حولوا وجهة النقد الدولي نحو الدول العربية، وأصبح بإمكان إسرائيل مواصلة عملياتها العسكرية المخطط لها.
إدارة الدفة
هكذا عوامل لا تبشر بالخير بالنسبة للجهود الدبلوماسية التي تبذلها إدارة بايدن بشأن الحرب في غزة في الآونة الأخيرة. فخلال المفاوضات المتواصلة بنوبات واستئنافات، قام ممثلو إسرائيل و"حماس" مراراً وتكراراً بتبادل الاتهام بالتعنت علناً، في محاولة من قبل كل طرف كي يبدو بمظهر مسؤول.
فإذا تخلت "حماس" كلياً عن التعاون مع جهود الوساطة القائمة، تستطيع إسرائيل الادعاء بأنها حاولت -على الرغم من أنها لا ترى أي مصلحة في نجاح المفاوضات طبعاً- وإن العنف هو الطريق الوحيد للمضي قدماً.
وفي المقابل، لو قبلت "حماس" الاقتراح للبدء بتنفيذ المرحلة الأولى من الخطة، فإن الطرفين سيكسبان ستة أسابيع من وقف النار المؤقت ليعيدا تنظيم صفوفهما إذا تعرضت المفاوضات المؤدية إلى المرحلة الثانية من الخطة للفشل.
وتبقى احتمالات الفشل هنا عالية جداً بالنظر إلى الخلاف الجذري بين الطرفين. وما إن أنهى بايدن حديثه عن الخطة المقترحة حتى سارع نتنياهو إلى القول إن الخطة لا تؤثر في هدفه الأول المتمثل بتدمير "حماس". وسوف ترفض "حماس" بدورها بالتأكيد أي اتفاق يبلغ من طريق المفاوضات ويدعو إلى تدميرها.
ومن هنا، فإن الوضع القائم قد يصبح صيغة مكررة لما حدث خلال حزيران (يونيو) 1948، عندما قامت الأمم المتحدة خلال الحرب العربية - الإسرائيلية الأولى بترتيب وقف إطلاق نار مؤقت لمدة أربعة أسابيع، بغية تأمين مجال لوسيط الأمم المتحدة، فولكي بيرنادوت، للتفاوض على اتفاق سلام دائم.
وفيما كان بيرنادوت يقدم اقتراحات عديدة في ذلك السياق، قامت إسرائيل وخصومها العرب بتطويع جنود ومقاتلين جدد، وبتنشيط شحنات الأسلحة الدولية وتخزين السلاح.
وعلى النقيض مما أوحي للوسيط الأممي آنذاك، لم يكن لأي من الطرفين أي رغبة على الإطلاق في تقديم تنازلات، واستعد الطرفان لشن هجمات قبل الموعد الرسمي لانتهاء وقف إطلاق النار لأخذ الطرف المعادي على حين غرة.
وعندما سقط وقف إطلاق النار جاءت الأعمال القتالية التي عملت لمصلحة إسرائيل كلياً، التي استفادت من فسحة الزمن التي أتاحتها المفاوضات. وهكذا، كانت النتيجة الجانبية للدبلوماسية هي المزيد من الحرب.
كما تزيد العلاقة القوية بين الولايات المتحدة وإسرائيل من تعقيد آفاق السلام في حرب غزة الراهنة. وقد رأى مفكرون سياسيون في هذا الإطار، مثل كاتيا فافريتو وأندرو كيد وبورشو سافون، أن الوسطاء الأقوياء المنحازين -حيث الولايات المتحدة أحد هؤلاء بانحيازها إلى جانب إسرائيل- حققوا نجاحاً أكبر من الوسطاء الأضعف أو غير المنحازين، في إقناع المتحاربين بالوصول إلى تسوية، لأن الوسطاء الذين ينحازون إلى طرف قادرون على إقناع ذاك الطرف بالتفاوض والالتزام باتفاق، غير أن الولايات المتحدة في هذا الإطار قد تكون مفرطة في التحيز.
وقد أظهرت واشنطن باستمرار استعدادها لاستخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي لحماية إسرائيل، وانتقاد المحكمة الجنائية الدولية، والتسامح عموماً تجاه سلوك إسرائيل في سياق الحرب.
وقد استدعى الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل شكوكاً في قدرة الولايات المتحدة على ردع إسرائيل عن التراجع عن التسوية.
امنحوا السلام فرصة
قد تؤدي جهود الأطراف الثالثة للدفع نحو حلول دبلوماسية من دون النظر إلى نظرات المتحاربين وظروفهم وأهدافهم، إلى تقويض احتمالات السلام.
وتبقى التسويات المولودة عبر التفاوض والناتجة من ضغوط طرف ثالث أكثر عرضة للانهيار من التسويات التي تسعى إليها الأطراف المتنازعة بنفسها. ويعتمد السلام الحقيقي على ممارسات أكثر حكمة وجهود أكثر تطلباً تقوم بها الدبلوماسية الدولية.
ومن المؤكد أن اتفاقات وقف إطلاق النار المولودة من المفاوضات، حتى لو كانت هدنًا قصيرة، غالباً ما تكون ضرورية لتقديم مساعدات إنسانية ذات قيمة للمدنيين الأبرياء الواقعين في تقاطع نيران الحرب.
وينبغي لمثل هذه الجهود التي تكون موجهة إلى الفلسطينيين في هذه الحالة ألا تتوقف. بل يجب النظر في فوائد الإغاثة الإنسانية الناجمة عن وقف إطلاق النار المؤقت بموازاة الجوانب السلبية المحتملة وطويلة الأمد للدبلوماسية غير الصادقة. ويمكن أن يؤدي تجاهل هذه المعضلة إلى معاناة أكبر.
على الرغم من إمكانية تأثير عدد من الدول ولمؤسسات الدولية في الحرب الراهنة، فإن الولايات المتحدة تبقى صاحبة النفوذ الأكبر. وهناك بدائل عدة أمام واشنطن في هذا الإطار يمكن أن تؤثر بطريقة أكثر جدوى في مسار الصراع من استراتيجيتها الحالية المتمثلة في الضغط من أجل المفاوضات.
أولاً، يجب على بايدن أن يغير وجهته عبر الإعلان وإظهار النية بأنه سيعاقب مرتكبي الفظائع الإنسانية ومنتهكي قوانين الحرب. وكما سبق للمحامية الأميركية، أونا أ. هاثواي، أن كتبت في "الفورين أفيرز"، فإن بوسع واشنطن الاستفادة إذا تراجعت عن هجومها على المحكمة الجنائية الدولية وإذا دفعت إسرائيل إلى التحقيق في مخالفات جنودها ومعاقبتهم. على بايدن أن يفعل ذلك وعليه زيادة التهديد بتجميد أو وقف شحنات الأسلحة إذا لم يتبدل سلوك إسرائيل.
وهذا لن ينقذ أرواح مدنيين فحسب، بل سيسهم أيضاً -ولو ببطء- في بناء الثقة بالولايات المتحدة لتكون حكماً محايداً لوقف إطلاق النار مستقبلاً.
ولتقويض قدرة "حماس" في جهود التجنيد والتعبئة، على الولايات المتحدة تشجيع إسرائيل على استهداف أعضاء "حماس" مباشرة وتلافي إيذاء المدنيين الفلسطينيين. كما سيكون للعقوبات المفروضة على المجموعات والأفراد الذين يؤججون العنف دور في هذا السياق.
وعلى الولايات المتحدة أيضًا -وكذلك مصر وقطر وغيرهما من الوسطاء المحتملين- أن يكونوا مستعدين لتقديم خدماتهم عندما يطلبها طرفا النزاع. لكن الجهود المستمرة للحث على المفاوضات أو الإصرار على شروط لا تتماشى مع مواقف المتحاربين الفعلية يجب تتوقف.
ولو جرت المفاوضات فعلاً، فإن احتمال نجاحها سيعتمد إلى حد كبير على مجريات في ساحة القتال تكون قد كشفت أرجحية طرف في النزاع وقبول كلا الطرفين بإمكانية تسوية قابلة للإنفاذ.
وأهمية الطرف الثالث (أو الأطراف الثالثة) لا تكمن هنا في قدرته على خلق السلام حيث لا يوجد سلام، وإنما في قدرته على المساعدة في تنسيق السلام وهندسته عندما يكون الطرفان مستعدين للتفكير فيه واعتماده، والحد من خطر أن يبدو المتحاربون (أو أحد أطراف النزاع) في حالة ضعف أو عرضة للاستغلال أثناء التفاوض.
إن الضغط على إسرائيل لتقليص الخسائر المدنية ومعاقبة جنودها الذين مارسوا سلوكًا غير مقبول أو إقناع جميع المتحاربين بإلقاء السلاح، هي مسائل ستتطلب إرادة وصبراً سياسياً وضبطاً للنفس أكثر مما تتطلبه المساعي العامة التي تدعو إلى القبول بتسوية غير مرجحة. كما أن هذه الإجراءات والأفعال تحمل وعداً -ولو كان ضئيلاً- بتغيير إيجابي.
*مترجم عن مجلة "فورين أفيرز"، حيث نشر في 24 تموز (يوليو) 2024.
اقرأ المزيد في ترجمات:
هل ستغير إدارة هاريس سياسة إسرائيل-فلسطين؟