لهذه الأسباب تشبث بايدن بإعادة ترشحه قبل تنحيه

1722416579720746000
جو بايدن يؤدي اليمين الدستورية بينما تحمل زوجته جيل "الكتاب المقدس" خلال حفل تنصيبه رئيسًا، 2021 - (المصدر)
جاك سترو* - (الإندبندنت) 25/7/2024

هناك كلمة واحدة يمكن أن تشرح سبب تحدي الرئيس الأميركي جو بايدن طوال هذه الفترة لجميع قوانين الجاذبية السياسية المعروفة. وهذه الكلمة هي "السلطة". فالسلطة مغرية ويمكن أن تستهلك كل دقيقة من كل يوم. كما أنها تسبب الإدمان. وقد يكون من السهل أن تعد نفسك شخصاً لا يمكن الاستغناء عنه على الإطلاق إذا لم يكن لديك هدف سام وفريد من نوعه.اضافة اعلان
في غياب السلطة تبدو الحياة قاتمة، ويطغى شعور بالفراغ أو انعدام الهدف. ولكن، ما من أحد في أي نظام ديمقراطي سبق لي أن صادفته -سواء في بريطانيا أو خارجها- كان على استعداد لخوض ما سماه الرئيس الأسبق للولايات المتحدة، ثيودور روزفلت، بمسيرة "الغبار والعرق والدم" التي تنطوي عليها المناصب العليا، إلا إذا كان مستعداً لبذل نفسه لقضية نبيلة تمنحه في أفضل الأحوال شعوراً بالرضا وطعم الانتصار نتيجة تحقيق إنجاز كبير في نهاية المطاف. وفي أسوأ الأحوال، إذا لم ينجح فإنه يكون على الأقل قد أخفق بعدما خاض مجازفات جريئة وكبيرة.
نعم، كان بايدن مدمناً على سلطته ويرغب في التمسك بها. وهذا الانجذاب إليها مفهوم تماماً. من الذي يكون في موقعه ولا يتملكه هذا الشعور؟
إن رئيس الولايات المتحدة هو أقوى زعيم في العالم لأنه القائد الأعلى لأقوى قوات مسلحة على سطح الأرض، بموازنة عسكرية تبلغ ضعف موازنة الصين المماثلة وتتجاوز بكثير الإنفاق المشترك للاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة. وهذه القوة العسكرية مدعومة بأقوى اقتصاد في العالم والأكثر ابتكاراً. وبذلك، يحمل الرئيس الأميركي بين يديه، حرفياً، مصير الجنس البشري بأكمله.
غير أن سلطة الرئيس تكون في كثير من المجالات أكثر تقييداً من سلطة رئيس الوزراء في المملكة المتحدة الذي يتمتع بأغلبية في "مجلس العموم". ويعتمد الرئيس الأميركي على "الكونغرس" للتقرير بشأن التمويل. وحتى صلاحياته التقديرية في السياسة الخارجية يمكن أن يقيدها بصورة كبيرة من "مجلس الشيوخ".
وبصفتي وزيراً بريطانياً سابقاً رفيع المستوى في حكومتين، كانت اتصالاتي الشخصية مع كل من الرئيس بيل كلينتون والرئيس جورج بوش محدودة. لكن ما رأيته من هدوء غريب بدا أنه يحيط بالرئيس أصابني فعلاً بالذهول.
في حين كانت هناك بالتأكيد جلبة حول الموظفين في الجناح الغربي للبيت الأبيض، إلا أنني لم ألاحظ تلك الطاقة المحمومة نفسها التي يمكن أن تسود في بعض الأحيان في مكتب رئيس الوزراء البريطاني، خصوصاً في أيام الأربعاء قبل "جلسة طرح الأسئلة على رئيس الوزراء" أو في خضم الأزمات. وفي المقابل، يستطيع الرئيس الأميركي اختيار متى يواجه الأسئلة في حين أن رئيس الوزراء في المملكة المتحدة لا يتمتع بهذا الترف.
في مطلع شباط (فبراير) 1998، طلب مني رئيس الوزراء آنذاك، توني بلير، أن أرافقه في أول زيارة حكومية رسمية له للبيت الأبيض، للقاء الرئيس الأسبق بيل كلينتون.
في مرحلة الإعداد لمواعيد تلك الرحلة، لم يكن أحد يتوقع أنها ستتزامن مع اندلاع فضيحة مونيكا لوينسكي. قبل بضعة أيام فقط، كان الرئيس الأسبق -الذي كان من أبرز المدافعين عن القضايا الأخلاقية- قد قال لحشد من الصحفيين المتشككين، إنه "لم يقم علاقات جنسية مع تلك المرأة". وكانت وسائل الإعلام الأميركية تسعى بلا هوادة إلى فضحه ومحاسبته.
وبينما كان كلينتون يتظاهر بانتقاده لمظالم الصحافة الأميركية (التي بدت معتدلة مقارنة بالصحافة البريطانية في ذلك الوقت)، قرر أنه لا بد لنا من أن نمضي قدماً في عقد ندوة مدتها أربع ساعات في إحدى الغرف العليا للبيت الأبيض، عن مفهوم "الطريق الثالث". هل تذكرون ذلك؟
لم تكن هناك أي مقاطعات للحديث. وبدا المكان كما لو أن من الممكن أن يكون غرفة في "هارفرد يارد" أو كلية في "جامعة أكسفورد". كان هادئاً وغريباً بصورة بارزة ولافتة للنظر. وفكرت في أنه لو حدث موقف مماثل في المملكة المتحدة، لما كان فإن رئيس الوزراء (حتى لو كان بوريس جونسون نفسه) لينجو منه بسهولة.
اختُتمت رحلة وفدنا بمأدبة رائعة أقيمت في البيت الأبيض تضمنت جلسة موسيقية أحياها كل من ستيفي ووندر وإلتون جون. وفي تلك الزيارة تم اصطحابي، بصفتي "الوزير الأعلى رتبة" مع توني، مع نائب الرئيس كلينتون آل غور.
وفي ما يتعلق بغور لاحظت أمرين: كانت لديه شهية هائلة للحلوى، وكان يبدو غريب الأطوار في وجود غرباء، ويتمتع بـ"غطرسة" الطبقة العليا فاحشة الثراء. وربما يفسر ذلك سبب عدم تمكنه من هزيمة جورج دبليو بوش بصورة حاسمة في انتخابات العام 2000.
وكان الرئيس السابق بوش نفسه يتمتع ببعض الخصائص التي تميز الطبقة العليا. فقد التحق بكلية "أندوفر" -إحدى أقدم المدارس الخاصة في الولايات المتحدة- ثم التحق بـ"جامعة ييل". لكنه حافظ في المقابل على صورة الرجل الريفي من تكساس الذي ينتمي إلى الطبقة العاملة، وتمتع بشخصية هادئة بصورة ملحوظة وكان منفتحاً على الأفكار الجديدة.
وعندما كانت كوندوليزا رايس وزيرة للخارجية الأميركية، قامت بترتيب اجتماع لي مع الرئيس بوش لأشرح له الأسباب التي دفعتني إلى الاعتقاد بأن الولايات المتحدة بجب أن تخوض المحادثات النووية التي بدأتها فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة مع إيران.
ومرة أخرى كان الهدوء السائد في غرفة الاجتماع -مقارنة بأجواء مقر رئاسة الوزراء في "10 داونينغ ستريت"- مختلفاً بصورة لافتة. وقد مازح الرئيس الأسبق موظفيه قائلاً إنه حصل على درجة متوسطة من "جامعة ييل"، في حين أن الطروحات والأفكار الذكية في الغرفة كانت تأتي من رايس ومن مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي ستيفن هادلي.
في ما يتعلق بجو بايدن، رغم القيود التي يفرضها عليه منصبه والجهود الحثيثة التي يبذلها "جمهوريو" دونالد ترامب لإحباط كل خطوة يقوم بها، يمكن للرئيس الأميركي الحالي أن ينظر بثقة إلى الإنجازات المهمة التي حققها خلال فترة رئاسته.
في حين أن الانسحاب الذي قادته الولايات المتحدة من أفغانستان كان فوضوياً للغاية، فإن تلك الخطوة تمت موازنتها وفق قيادة بايدن الواضحة لحلف الناتو، والدعم الذي قدم لأوكرانيا في مقاومة الغزو الروسي. وساعد في تحفيز الاتحاد الأوروبي على اتخاذ موقف يزداد حزمًا من روسيا، رغم التوتر الذي عبرت عنه بعض الدول التي تعتمد بصورة كبيرة على الطاقة الروسية، وبخاصة ألمانيا.
في المقابل، اتسمت سياسة بايدن تجاه الصين بالحزم أيضاً. وهو يدرك أن اقتصاد الولايات المتحدة والصين مترابطان بصورة وثيقة، ويعتمد كل منهما على الآخر بصورة متبادلة، إلا أنه فرض قيوداً على تصدير الرقائق الإلكترونية التي تتجاوز عتبة قدرة معينة إلى الصين (وبعض الدول الأخرى)، وبخاصة تلك المستخدمة في مجال "الذكاء الاصطناعي" والتطبيقات العسكرية. كما حظر تصدير الآلات المستخدمة في تصنيع تلك الرقائق المتقدمة.
أما "قانون خفض التضخم" الذي وضعه بايدن، فإنه لم يهد، رغم تسميته، إلى معالجة التضخم الذي يقل عن ثلاثة في المائة في المقام الأول، إلا أنه كان تشريعاً تاريخياً ويمثل أكبر استثمار عام -لا يقل عن 500 مليار دولار، منذ "الصفقة الجديدة" للرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت في ثلاثينيات القرن العشرين. 
ويهدف القانون إلى تعزيز التصنيع المحلي وتشغيل العمالة، وتحسين الأجور وخفض أسعار الطاقة المنزلية وتعزيز الطاقة المستدامة، وخفض كلف العقاقير الطبية (وهي قضية رئيسة بالنسبة للكثير من الأسر). وتطلب الأمر براعة بايدن كلها إلى جانب براعة معاونيه في "الكونغرس" لدفع القانون قدماً، رغم المعارضة القوية التي أبداها "الجمهوريون".
وبالتوازي، واصل الاقتصاد الأميركي وتيرة نموه القوي، متجاوزاً اقتصادات دول أوروبا بكثير. وأضيفت أكثر من 200 ألف وظيفة الشهر الماضي وأظهرت البورصات الأميركية مرونة مذهلة طوال فترة ولاية جو بايدن.
من بين الاتهامات المتعددة التي وجهها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لبايدن أن الأخير فشل في كبح جماح الهجرة غير الشرعية إلى الولايات المتحدة. والمفارقة في الأمر -التي من المحتمل أن تغيب عن أنصار ترامب- أن بايدن كان سيحقق نجاحاً أكبر بكثير لولا "الفيتو" الجدلي الذي استخدمه "الجمهوريون" في مجلس النواب. وكان قد تمكن من تمرير مشروع القانون في "مجلس الشيوخ" حيث حظي بدعم أعضاء من الحزبين السياسيين الرئيسين، الذي كان "يحتمل أن يكون فعالاً" في الحد من الهجرة غير الشرعية، سوى أن المشروع واجه عقبات في "مجلس النواب" حيث تم حظره بناء على تعليمات ترامب نفسه.
حتى في ما يتعلق بموضوع الإجهاض، تمكن بايدن من التغلب على العقبات التي أوجدتها "المحكمة العليا" والمجالس التشريعية للولايات ذات الأغلبية "الجمهورية"، من خلال ضمان بقاء أدوية إنهاء الإجهاض متاحة في الولايات المناهضة للإجهاض.
لا شك أن حزب "العمال" البريطاني هو أقرب أيديولوجياً إلى "الديمقراطيين" منه إلى "الجمهوريين". وكان توني بلير قبل فترة طويلة من فوزه برئاسة الوزراء في العام 1997 قد بذل جهداً كبيراً لتطوير علاقته مع الرئيس الأسبق بيل كلينتون. وكان انتخاب جورج بوش الابن رئيساً في العام 2000 مفاجئاً وجاء بهامش فوز ضيق (فقد خسر التصويت الشعبي بأكثر من نحو نصف مليون صوت، وفاز بأصوات "المجمع الانتخابي" بأغلبية أربعة أصوات فقط).
كما عمل بلير بجد للتغلب على الشكوك المتجذرة تجاه "الجمهوريين" وعزز علاقته مع بوش من خلال "الوقوف جنباً إلى جنب" معه، في أعقاب أحداث 11 أيلول (سبتمبر) مباشرة.
العبرة المستخلصة هنا هي أنه لا يمكنك اختيار القادة الأجانب الذين ستواجههم ومن الأفضل عدم محاولة القيام بذلك. ولم يفاجئني رفض رئيس الوزراء السير كير ستارمر مناقشة علاقته مع نائبة الرئيس الأميركي، كامالا هاريس، عندما أشار إلى أن "الحزب الديمقراطي الأميركي هو وحده الذي يقرر من يريد أن يطرح".
فتح قرار الرئيس بايدن عدم الترشح لولاية ثانية بالتأكيد باب الاحتمالات أمام المرشح "الديمقراطي" (أياً يكن)، وسيؤدي إلى منافسة أكثر إثارة للاهتمام. لكن الاحتمالات تميل إلى احتمال فوز ترامب.
يُذكر أن هناك "علاقة خاصة" تربط ما بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة في مجالات مختلفة مثل الاستخبارات والأمن والدفاع وبعض قضايا السياسة الخارجية، لكنها لا تمتد إلى أي جانب آخر -وبخاصة التجارة- بعدما أصبح الحزبان الأميركيان الرئيسان يميلان أكثر فأكثر إلى اعتماد سياسات أكثر حمائية للصناعات الأميركية خلال الأعوام الأخيرة.
علاوة على ذلك، هذه العلاقة ليست متوازنة تماماً. فكل رئيس وزراء بريطاني يدرك أن المملكة المتحدة تحتاج الولايات المتحدة أكثر من العكس. ولذلك يتعين علينا أن ننحاز إليها بغض النظر عن الرئيس الذي يجلس في المكتب البيضاوي. الأمر في نهاية المطاف يتعلق بالسلطة، من يملكها وكيف يقوم باستخدامها. وذلك يؤثر فينا جميعاً.

*جاك سترو: وزير خارجية بريطانيا الأسبق.