ما الخلل الذي يشوب الديمقراطية في المملكة المتحدة؟

زعيم حزب العمال كير ستارمر يلقي خطابا خلال تجمع انتخابي  في الانتخابات البريطانية العامة الأخيرة - (أرشيفية)
زعيم حزب العمال كير ستارمر يلقي خطابا خلال تجمع انتخابي في الانتخابات البريطانية العامة الأخيرة - (أرشيفية)

غرايس بليكلي - (إندبندنت عربية) 2024/7/13

المشكلة في بريطانيا هي أن هناك فجوة كبيرة بين ما يريده الجمهور وكيف يصوت والسياسات التي يتم تنفيذها في نهاية المطاف. الناخبون يريدون شيئا والساسة يعدون بشيء آخر تماما. وما يزيد المشكلة تعقيدا هو أن لدى السياسيين تاريخا حافلا من التراجع عن جزء كبير من وعودهم وتعهداتهم الانتخابية. هل يكسر رئيس وزراء بريطانيا الجديد هذا المنحى ويقدم أداء مختلفا؟اضافة اعلان
                                     *   *   *
كيف أدليتم بصوتكم؟ وهل يعكس الحزب الذي اخترتموه (بغض النظر عن مشاركتكم اسمه) تطلعاتكم وكل ما تطمحون إليه؟
عندما يتعلق الأمر بالنقطة الأخيرة، فإن الجواب هو ببساطة: لا، ليس حقا. فبطاقة الاقتراع التي وضعتموها في الصندوق تمثل ما هو أقل بكثير مما تعتقدونه. كما أن غالبية الأشخاص في الواقع يميلون إلى التصويت للحزب الذي يعتبرونه الخيار الأقل سوءا، بينما يختار آخرون ببساطة عدم التصويت على الإطلاق.
ولكن، مع أن خيبة الأمل هذه في السياسة تشكل جزءا من اتجاه سائد منذ فترة طويلة في البلاد، إلا أن الثقة بالأحزاب السياسية بلغت هذا العام أدنى مستوياتها على الإطلاق. فقد أعرب 12 في المائة من الناخبين فقط عن أنهم يثقون فيها، بينما ذكر أقل من ربعهم أنهم يثقون في البرلمان، في حين ذكر أقل من الخمس أنهم يثقون في وسائل الإعلام.
في حين لعبت عوامل سياسية قصيرة المدى، مثل الرئاسة الكارثية لليز تراس للحكومة، دورا في هذا الافتقار إلى ثقة الناس، فإنها لا تعكس الواقع بأكمله. والحقيقة أن الثقة بالديمقراطية كانت في تراجع منذ أعوام عدةـ ولكن ما الذي يفسر هذا الشعور واسع النطاق بخيبة الأمل؟ أعتقد أن الأمر يتلخص في قضية رئيسة واحدة، هي فشل السياسيين في الوفاء بما يتوقعه الناس وما يطمحون إليه.
من المفترض بالمؤسسات الديمقراطية أن تقوم بوضع الآليات التي تتيح ترجمة طموحات الناخبين إلى نتائج سياسية. فإذا كانوا يرغبون في خفض الضرائب وتقليص الإنفاق العام، فلا بد من أن يتمكنوا من التصويت لمصلحة الحزب الذي يحقق هاتين الغايتين على وجه التحديد. لكن المشكلة في المملكة المتحدة تتمثل في وجود فجوة كبيرة بين مطالب الناخبين وسلوكهم الانتخابي والسياسات التي يتم تنفيذها فعليا في نهاية المطاف.
أحد استطلاعات الرأي الذي أجرته أخيراً مؤسسة "سورفايشن" لأبحاث السوق أجرى مقارنة بين ما يريده الناس من السياسة وما يقدمه السياسيون على أرض الواقع، وتبين أن نحو 70 في المائة من الناخبين يؤيدون المُلكية العامة لخدمة المياه، و66 في المائة يؤيدون الملكية العامة لقطاع الطاقة، و68 في المائة يفضلون أن تبقى خدمة البريد ملكية عامة، لكن أيا من الأحزاب السياسية الرئيسة لم يعرض هذه الخيارات على الناخبين.
في المقابل، أعرب الناس عن مخاوف عميقة بشأن وضع الاقتصاد والخدمات العامة، ويؤكد ما يقارب 40 في المائة من الأشخاص الذين استطلعت آراؤهم أنهم واجهوا صعوبات في تأمين الغذاء خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، فيما أشار نحو 45 في المائة منهم إلى أن أزمة ارتفاع كُلف المعيشة كانت عاملا رئيسا مؤثرا في الاتجاه التي سلكه تصويتهم.
ولكن، حتى حزب العمال لا يقدم هو الآخر حلولا لهذه القضايا. ويدرك البريطانيون الذين منحوه أصواتهم ذلك. وعلى الرغم من أن معظم الناخبين يعتقدون أن هذا الحزب في وضع أفضل من حزب المحافظين لمعالجة هذه المسائل، كشف استطلاع للرأي أجري في آب (أغسطس) 2023 أن 23 في المائة فقط من الأفراد يعتقدون أن معالجة أزمة ارتفاع تكاليف المعيشة تشكل أولوية بالنسبة لحزب العمال.
قد يكون من السهل تفسير هذه الفجوة بقول أن الناس يرغبون في الحصول على فوائد معينة من دون الرغبة في قبول فرض الزيادات الضريبية اللازمة لتمويل هذه السياسات، غير أن هذه النظرة ليست دقيقة هي الأخرى.
في المملكة المتحدة يبلغ عدد الذين يؤيدون زيادة الضرائب لدفع كلف الخدمات العامة ضعف عدد الذين يؤيدون خفض الضرائب والإنفاق العام. وبينما يرغب 73 في المائة من الناس في فرض ضريبة بنسبة 2 في المائة على الثروات التي تزيد على 5 ملايين جنيه إسترليني (6.4 مليون دولار أميركي)، يطالب 78 في المائة بفرض ضريبة إضافية بنسبة 1 في المائة على الثروات التي تتجاوز 10 ملايين جنيه إسترليني (12.8 مليون دولار).
وفي مقابل هذا الاتجاه السائد يعارض حزب العمال بشدة النظر في زيادة الضرائب على الأثرياء أو الشركات الكبيرة. كما أنه يلتزم بشكل صارم بسياسته المالية غير المنطقية في مواجهة الأزمة الاقتصادية بطريقة فالعة، مما يعني أنه إلى جانب مقاومته الزيادات الضريبية، لا يخطط لتخصيص أموال جديدة لمعالجة القضايا الملحة مثل أزمة ارتفاع كُلف المعيشة، وتلك التي تواجهها مرافق "الخدمات الصحية الوطنية".
حث "معهد الدراسات المالية"، وهو أحد مؤسسات الفكر الاقتصادي الرائدة في المملكة المتحدة، حزب العمال على اعتماد الشفافية مع الناخبين في ما يتعلق بالطريقة التي ينوي من خلالها تمويل التزاماته السياسية الكثيرة. واستنادا إلى تعهداته المتعلقة بالضرائب والإنفاق الحكومي، يبدو أنه سيكون من الصعب الوفاء بوعود البيان الانتخابي للحزب.
على سبيل المثال، تعهد حزب العمال بتقليص أوقات انتظار المرضى في مرافق "الخدمات الصحية الوطنية، وزيادة المواعيد الطبية من خلال إضافة 40 ألف موعد جديد أسبوعيا، لكن مؤسسة "نافيلد تراست"، وهي مؤسسة بحثية بارزة في مجال الصحة، تقول إن التزامات حزب العمال في مجال الخدمات الصحية الوطنية تفتقر إلى الصدقية والتخطيط التفصيلي".
سبق لكير ستارمر أن تراجع عن كثير من الوعود السياسية الرئيسية بعد مواجهته ضغوطا من مجموعات مؤثرة، أبرزها التعهد باستثمار 28 مليار جنيه إسترليني (35 ملياراً و840 مليون دولار) سنويا في جهود إزالة انبعاثات الكربون، ورضخ لمطالب جماعة الضغط التجارية الأساسية في المملكة المتحدة والممثلة في "اتحاد الصناعات البريطانية"، متراجعا على مضض عن تعهداته بتعزيز حقوق العاملين، مما أدى إلى رفض "اتحدوا" Unite، وهي إحدى أكبر النقابات في المملكة المتحدة، تأييد البيان الانتخابي لحزب العمال.
مع تولي حزب العمال السلطة، من المتوقع أن تشتد الضغوط من جانب مجموعات الأعمال والمستثمرين الدوليين. فهل يُظهر كير ستارمر عزماً أو استعداداً لمواجهة أصحاب المصالح المؤثرين والتمسك بأجندته السياسية؟ في حال لم يتمكن من ذلك لن يتم إنجاز الكثير من المبادرات التي وعد حزب العمال بتطبيقها أثناء وجوده في السلطة.
وترسم الإحصاءات صورة قاتمة في هذا المجال. ففي أعقاب الأزمة المالية عانت المملكة المتحدة "فترة غير مسبوقة" من ركود الأجور لمدة 15 عاما، ومن المتوقع أن يكون البرلمان الجديد الأول في التاريخ الحديث الذي يشهد تراجع مستويات المعيشة.
وفي الوقت نفسه، يتوقع 80 في المائة من علماء المناخ أن تتجاوز درجات الحرارة العالمية 2.5 مئوية فوق مستويات ما قبل عصر الصناعة، مما ينذر بمستقبل "شبه بائس" من موجات الحر الشديدة والنقص في الغذاء والهجرات الجماعية، يُضاف إلى كل ما تقدم أن ربع عدد أطفال المملكة المتحدة يعيشون اليوم في فقر مدقع.
إننا نطالب سياسيينا بالاعتراف أولاً بالكثير من هذه القضايا الملحة، ثم تقديم خطط ملموسة لمعالجتها. ولكن، إلى أن يحدث ذلك، ليس من المستغرب أن تستمر الثقة في السياسة في التضاؤل. ويتعين على أولئك الذين في مناصب السلطة أن يواجهوا المحاسبة. وقد تضطلع قوى سياسية مقابلة (مثل حزب "الخضر" والنواب المستقلين) بدور حاسم في ذلك.
من المهم للغاية الآن أكثر من أي وقت مضى دعم الأصوات التي تدعو إلى اتخاذ إجراءات عاجلة بشأن مكافحة تغير المناخ وزيادة الضرائب على الأثرياء وتعزيز الاستثمار في الخدمات العامة. إن آخر ما نريده هو استمرار الوضع على ما هو عليه.
*غرايس بليكلي Grace Blakeley: معلقة اقتصادية وسياسية إنجليزية، وصحفية، وكاتبة عمود، ومؤلفة، ولدت في 26 حزيران (يونيو) 1993. تكتب لصحيفة "تريبيون"، وقد اكتسبت شهرة لآرائها حول القضايا الاقتصادية والتعليق السياسي.