تقرير خاص - (الإيكونوميست) 30/1/2023
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
سباق مختبرات الذكاء الاصطناعي يشتعل: "تشات جي. بي. تي" ليس اللعبة الوحيدة في المدينة.
- * *
في كثير من الأحيان، تستحوذ التكنولوجيا على خيال العالم. وأحدث مثال، إذا حكمنا من الضجة في "وادي السيليكون"، وفي "وول ستريت"، في مكاتب المديرين وغرف الأخبار والفصول الدراسية في جميع أنحاء العالم، هو "تشات جي. بي. تي" ChatGPT. في غضون خمسة أيام بعد كشف النقاب عنه في تشرين الثاني (نوفمبر)، اجتذب روبوت الدردشة الذكي اصطناعيًا، الذي أنشأته شركة ناشئة تدعى "أوبن إيه. آي" OpenAI، مليون مستخدم، مما يجعل ذلك إحدى أسرع عمليات إطلاق المنتجات الاستهلاكية في التاريخ. وتريد شركة "ميكروسوفت"، التي استثمرت للتو 10 مليارات دولار في "أوبن إيه. آي"، إنتاج قوى شبيهة بـ"تشات جي. بي. تي"، تشمل إنشاء النصوص والصور والفيديو التي تبدو وكأنها من صنع البشر، والتي تدمج فيها الكثير من البرمجيات التي تبيعها. وفي 26 كانون الثاني (يناير)، نشرت شركة "غوغل" ورقة بحث تصف نموذجًا مشابهًا يمكنه إنشاء موسيقى من وصف نصي لأغنية. ويستمع المستثمرون في "ألفابيت" Alphabet، الشركة الأم، إلى الإجابات على "تشات جي. بي. تي". ويقال إن "بايدو" Baidu، عملاقة البحث الصينية، تخطط لإضافة روبوت محادثة إلى محرك البحث الخاص بها في آذار (مارس) المقبل.
ما يزال من السابق لأوانه أن نعرف كم أن لهذا الضجيج المبكر ما يبرره. وبغض النظر عن المدى الذي تعمل فيه نماذج الذكاء الاصطناعي "التوليدية" خلف "تشات جي. بي. تي" ومنافسيه على تغيير الأعمال والثقافة والمجتمع، فإنها قد شرعت تعمل مسبقًا على تغيير طريقة تفكير صناعة التكنولوجيا بشأن الابتكار ومحركاته -مختبرات أبحاث الشركات التي تجمع، مثل "أوبن إيه. آي" و"غوغل ريسيرتش"، بين قوة المعالجة الخاصة بالتكنولوجيا الكبيرة والقوة العقلية لبعض من ألمع شرارات علوم الحاسوب. هذه المختبرات المتنافسة -سواء كانت جزءًا من شركات التكنولوجيا الكبرى، أو تابعة لها، أو تديرها شركات ناشئة مستقلة- تنخرط الآن في سباق ملحمي للسيطرة على الذكاء الاصطناعي. وستحدد نتيجة هذا السباق مدى سرعة بزوغ فجر عصر الذكاء الاصطناعي لمستخدمي الحاسوب في كل مكان -ومن الذي سيسيطر عليه.
لطالما كانت مؤسسات البحث والتطوير مصدرًا لمنجزات التقدم العلمي، خاصة في أميركا. قبل قرن ونصف، استخدم توماس إديسون عائدات اختراعاته، بما في ذلك الفونوغراف والمصباح، لتمويل ورشته في مينلو بارك، نيو جيرسي. وبعد الحرب العالمية الثانية، استثمرت شركة America Inc بشكل كبير في العلوم الأساسية على أمل أن تنتج عن ذلك منتجات عملية. وتضم كل من "دوبونت" DuPont (صانعة المواد الكيميائية)، و"آي. بي. إم" IBM، و"زيروكس" Xerox (اللتين تصنعان الأجهزة) مختبرات أبحاث كبيرة. وأنتجت مختبرات "إيه. تي. آند تي. بيل"، من بين اختراعات أخرى، الترانزستور، والليزر، والخلية الكهروضوئية، مما أكسب باحثيها تسع جوائز نوبل.
وعلى الرغم من ذلك، في أواخر القرن العشرين، أصبح جانب البحث في الشركات يقل بشكل مطرد مقابل التطوير. في العام 2017، فحص الاقتصادي أشيش أرورا Ashish Arora وزملاؤه، الفترة من العام 1980 إلى العام 2006، ووجدوا أن الشركات قد ابتعدت عن العلوم الأساسية نحو تطوير الأفكار الحالية. وجادل السيد أرورا وزملاؤه بأن السبب هو ارتفاع تكلفة البحث والصعوبة المتزايدة في جني ثماره. وطورت شركة "زيروكس" الأيقونات والنوافذ المألوفة الآن لمستخدمي الحاسوب، لكن شركتي "أبل" Apple و"ميكروسوفت" هما اللتان جنتا معظم الأموال منها. وبقي العلم مهمًا للابتكار، لكنه أصبح مجال عمل الجامعات غير الهادفة إلى الربح.
الآن، أدى ظهور الذكاء الاصطناعي إلى خلخلة الأمور مرة أخرى. لم تعد الشركات الكبيرة هي اللعبة الوحيدة في المدينة. قامت الشركات الناشئة مثل "أنثروبيك" Anthropic و"كاراكتر إيه. آي" Character ai ببناء برمجياتها المنافسة لـ"تشات جي. بي. تي". وقامت شركة "ستابيليتي" للذكاء الاصطناعي Stability ai، وهي شركة ناشئة جمعت اتحادًا من الشركات الصغيرة، والجامعات، والمؤسسات غير الربحية لتجميع موارد الحوسبة معًا، بإنشاء نموذج شعبي مفتوح المصدر يحظى بالشعبية لتحويل النصوص إلى صور. وفي الصين، تعد الجماعات المدعومة من الحكومة، مثل "أكاديمية بكين للذكاء الاصطناعي" (baai) رائدة في هذا المضمار.
لكن جميع الاختراقات الحديثة تقريبًا في مجال الذكاء الاصطناعي الكبير على مستوى العالم جاءت من الشركات العملاقة، لأنها تتمتع بقوة الحوسبة، ولأن هذا مجال نادر حيث يمكن دمج نتائج الأبحاث الأساسية بسرعة في المنتجات. أما شركة "أمازون"، التي يدعم قوة الذكاء الاصطناعي لديها مساعد الصوت "أليكسا" Alexa، وشركة "ميتا" Meta، التي أحدثت موجات مؤخرًا عندما تغلب أحد نماذجها على لاعبين بشريين في "دبلوماسي" Diplomacy، وهي لعبة إستراتيجية للأجهزة اللوحية، فتنتج على التوالي ثلثي وأربعة أخماس ما تنتجه في الذكاء الاصطناعي جامعة ستانفورد، التي تشكل معقلًا لعلوم الحاسوب. وتنتج شركتا "ألفابيت" و"ميكروسوفت" أكثر من ذلك بكثير. ولا يشمل هذا "ديب مايند" DeepMind، شقيقة مختبر أبحاث "غوغل" التي استحوذت عليها الشركة الأم في 2014، و"أوبن إيه. آي"، الشركة التابعة لـ"ميكروسوفت".
يختلف رأي الخبراء حول من هو الذي في الأمام حقًا من حيث المزايا. ويبدو أن المختبرات الصينية، على سبيل المثال، لديها ريادة كبيرة في الحقل الفرعي للرؤية الحاسوبية الذي يتضمن تحليل الصور، حيث يحوزون الحصة الكبرى من الأوراق البحثية الأكثر اقتباسًا. ووفقًا لتصنيف صاغته شركة "ميكروسوفت"، فإن أفضل خمسة فرق رؤية حاسوبية في العالم كلها صينية. كما أنشأت "أكاديمية بكين للذكاء الاصطناعي" ما تقول إنه أكبر نموذج للغة الطبيعية في العالم، وهو "وو داو 2.0" Wu Dao 2.0. ويحظى شيشرون لاعب لعبة "دبلوماسي" لشركة "ميتا"، بالشهرة لاستخدامه التفكير الاستراتيجي والخداع ضد المعارضين من البشر. وقد تغلبت نماذج شركة "ديب مايند" على الأبطال البشر في "غو" Go، وهي لعبة أجهزة لوحية معروفبالصعوبة، ويمكنها التنبؤ بشكل البروتينات، وهو تحد طويل الأمد في علوم الحياة.
هذه مآثر مذهلة، كلها. عندما يتعلق الأمر بنوع الذكاء الاصطناعي الذي يثير كل هذا الصخب والذي يعود فيه الفضل إلى "تشات جي. بي. تي"، فإن المعركة الكبيرة تدور بين "ميكروسوفت" و"ألفابيت". ولمعرفة التقنية الفضلى، وضعت مجلة "الإيكونوميست" ذكاء الشركتين تحت الاختبار. بمساعدة مهندس في "غوغل"، سألنا "تشات جي. بي. تي"، المستند إلى نموذج "أوبن إيه. آي" المسمى "جي. بي. تي-3.5" GTP-3.5، وروبوت الدردشة الخاص بـ"غوغل" الذي لم يتم إطلاقه بعد، والمبني على نموذج يسمى "لامدا" Lamda، مجموعة من الأسئلة. وتضمنت هذه الأسئلة عشر مسائل من مسابقة الرياضيات الأميركية ("ابحث عن عدد الأزواج المرتبة من الأعداد الأولية التي يصل مجموعها إلى 60") وعشرة أسئلة للقراءة من اختبار خريجي المدارس في أميركا ("اقرأ القطعة وحدد أي خيار يصف أفضل ما يكون ما يحدث فيها"). ولإضفاء الإثارة على الأمور، طلبنا أيضًا من كل نموذج نصيحة للمواعدة ("بالنظر إلى المحادثة التالية من تطبيق مواعدة، ما أفضل طريقة للطلب من شخص الخروج في الموعد الأول؟").
ولم يظهر أي منهما متفوقًا بشكل واضح. كان برنامج "غوغل" أفضل قليلاً في الرياضيات، حيث أجاب عن خمسة أسئلة بشكل صحيح، مقارنة بثلاثة لـ"تشات جي. بي. تي". وكانت نصائح المواعدة الخاصة بهما غير متساوية: بعد تغذيتهما ببعض الحوارات الحقيقية في تطبيق مواعدة، قدم كل منهما اقتراحات محددة في مناسبة واحدة، وعبارات بسيطة مثل "كن منفتحًا" و"تواصل بشكل فعال" في أخرى. وفي غضون ذلك، أجاب تطبيق "تشات جي. بي. تي" عن تسعة أسئلة من الاختبار بشكل صحيح مقارنة بسبعة أسئلة لمنافسه في "غوغل". كما بدا أكثر استجابة لتعليقاتنا وفهم بضعة أسئلة بالشكل الصحيح في محاولة ثانية. وفي 30 كانون الثاني (يناير)، أعلنت "أوبن إيه. آي" عن تحديث لـ"تشات جي. بي. تي" لتحسين قدراته في الرياضيات. وعندما غذينا برنامجي الذكاء الاصطناعي بعشرة أسئلة أخرى، تفوق "لامدا" مرة أخرى بنقطتين. ولكن، عندما أعطياه فرصة ثانية، تعادل "تشات جي. بي. تي".
السبب، على الأقل حتى الآن، في أن أي نموذج لا يتمتع بميزة لا يمكن تعويضها هو أن المعرفة بالذكاء الاصطناعي تنتشر بسرعة. ويقول ديفيد ها David Ha من "ستابيليتي" للذكاء الاصطناعي، إن الباحثين من المختبرات المتنافسة "يخرجون ويتسكعون جميعًا مع بعضهم بعضا". والكثير منهم، مثل السيد ها، الذي كان يعمل في "غوغل"، يتنقلون بين المؤسسات، ويجلبون الخبرة والتجربة معهم. وعلاوة على ذلك، نظرًا لأن أفضل أدمغة الذكاء الاصطناعي هي من العلماء في جوهرها، فإنهم غالبًا ما يجعلون انشقاقهم إلى القطاع الخاص مشروطًا باستمرار قدرتهم على نشر أبحاثهم وتقديم النتائج في المؤتمرات. وهذا، جزئيًا، هو سبب قيام "غوغل" بجعل التطورات الكبيرة معلنة، بما في ذلك "المحول"، وهو لبنة أساسية في نماذج الذكاء الاصطناعي، مما يمنح منافسيها دفعة قوية. (يشير الحرف "تي" في "تشات جي. بي. تي" إلى المحول transformer). ونتيجة لكل هذا، كما يعتقد يان لي كون، كبير خبراء الذكاء الاصطناعي في شرك "ميتا": "لا أحد يتقدم على أي أحد آخر بأكثر من شهرين إلى ستة أشهر".
ومع ذلك، ما تزال هذه الأيام الأولى. قد لا تبقى المختبرات متقاربة عنقًا إلى عنق إلى الأبد. وقيل إن "غوغل" أصدرت "تحذيرًا أمنيًا عاليًا"، خشية أن يسهم "تشات جي. بي. تي" في تعزيز محرك بحث "بينغ" Bing المنافس لشركة "ميكروسوفت". ويقول الباحثون في "ديب مايند" إن شركتهم، التي ركزت تاريخياً على الألعاب والعلوم، تضع المزيد من الموارد في نمذجة اللغة؛ وقد يتم الكشف عن روبوت الدردشة الخاص بها، المسمى "العصفور" Sparrow، هذا العام.
أحد المتغيرات التي قد تساعد على تحديد النتيجة النهائية لهذه المسابقة هو الكيفية التي يتم بها تنظيم المعامل. قد تجد شركة "أوبن إيه. آي"، وهي شركة صغيرة لديها القليل من تدفقات الإيرادات التي يجب حمايتها، نفسها وقد توفر لديها مجال وحرية في العمل أكبر من المنافسين لإطلاق المنتجات للجمهور. ويؤدي هذا بدوره إلى توليد أطنان من بيانات المستخدمين التي يمكن أن تجعل نماذجها أفضل ("التعلم المعزز من التغذية الراجعة البشرية"، إذا كان يجب أن تعرف) -وبالتالي جذب المزيد من المستخدمين.
يمكن أن تكون ميزة الذي يحرك الأحجار أولًا هذه معززة ذاتيًا بطريقة أخرى أيضًا. يلاحظ المطلعون أن التقدم السريع الذي حققته "أوبن إيه. آي" في السنوات الأخيرة سمح لها باقتناص الخبراء من المنافسين، بما في ذلك "ديب مايند". ولمواكبة ذلك، قد تحتاج شركات "ألفابيت" و"أمازون" و"ميتا" إلى إعادة اكتشاف قدرتها على التحرك بسرعة مع التركيز على الاختبار والتجريب -وهي مهمة حساسة بالنظر إلى كل التدقيق التنظيمي الذي تخضع له من الحكومات في جميع أنحاء العالم.
ثمة عامل حاسم آخر قد يكون مسار التطور التقني. حتى الآن في الذكاء الاصطناعي التوليدي، كان الحجم الأكبر هو الأفضل. وقد منح ذلك عمالقة التكنولوجيا الأثرياء ميزة كبيرة. لكن الحجم قد لا يكون كل شيء في المستقبل. من ناحية، هناك حدود لمدى كبر حجم النماذج التي يمكن تصورها. ويقدر معهد "إيبوك" Epoch، وهو معهد أبحاث غير هادف للربح، أنه بالمعدلات الحالية، ستنفد نماذج اللغات الكبيرة من النصوص عالية الجودة على الإنترنت بحلول العام 2026 (على الرغم من أن التنسيقات الأخرى الأقل استخدامًا، مثل الفيديو، ستظل وفيرة لبعض الوقت). والأهم من ذلك، كما يشير السيد ها من "ستابيليتي إيه. آي"، أن هناك طرقًا لضبط نموذج لأداء مهمة محددة "مما يقلل بشكل كبير من الحاجة إلى التوسع". ويتم تطوير طرق جديدة لفعل الأكثر بالأقل طوال الوقت.
يشير تدفق رأس المال إلى الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي، الذي جمع العام الماضي بشكل جماعي نحو 2.7 مليار دولار في 110 صفقات، إلى أن أصحاب رؤوس الأموال يراهنون على أن التكنولوجيا الكبيرة لن تستحوذ على كل القيمة. سوف تحاول كل من "ألفابيت" و"ميكروسوفت" وزميلاتهما من عمالقة التكنولوجيا، والحزب الشيوعي الصيني، إثبات خطأ هؤلاء المستثمرين. وقد بدأ سباق الذكاء الاصطناعي للتو فقط.
*نشر هذا التقرير تحت عنوان: The race of the AI labs heats up: ChatGPT is not the only game in town