مكسيم رودنسون.. عندما تضيء الماركسية تاريخ الإسلام

1695906138029915100
المفكر الفرنسي مكسيم رودنسون - (المصدر)

بين خمسينيات وتسعينيات القرن العشرين، لم يكن مكسيم رودنسون (1915-2004)، الذي كان يتمتع بثقافة موسوعية مثيرة للإعجاب وصاحب آلاف المراجعات، أحد أشهر المستعربين في فرنسا فحسب، بل كان أيضا شخصية مؤثرة في اليسار الفكري. وكانت وسائل الإعلام تلجأ إليه بانتظام للتعليق على أخبار البلدان الإسلامية.
*   *   *
ولد مكسيم رودنسون العام 1915. والداه يهوديان علمانيان من أوروبا الشرقية، هاجرا إلى باريس في بداية القرن العشرين، حيث انخرطا منذ العام 1920 في الحزب الشيوعي الفرنسي، الفرع الفرنسي للأممية الشيوعية (PCF-SFIC).

اضافة اعلان

 

ونشأ في عشرينيات القرن الماضي، يحركه "الإيمان الثوري" الذي أثاره المشروع الشيوعي، والذي تجسد في فرنسا من خلال المجتمع المضاد الذي شكله الحزب الشيوعي، والاتحاد العام للعمل الوحدوي (CGTU)، ومنظمات الشباب والتعليم الشعبي.


كان على رودنسون الشاب أن يبدأ العمل كساعٍ بمجرد حصوله على الشهادة المدرسية. ولكن بفضل المكتبات الشعبية للحركة العمالية، واصل تكوينه الفكري كعصامي، وتمكن في العام 1932 من الالتحاق بمدرسة اللغات الشرقية، وهي مؤسسة التعليم العالي الوحيدة في ذلك الحين التي لم تكن تشترط حصول طلابها على شهادة البكالوريا. وفي العام 1937، في أعقاب قيام الجبهة الشعبية، انضم إلى الصندوق الوطني للبحث العلمي، سلف المجلس الوطني للبحوث العلمية الحالي.


التجربة اللبنانية


 

تم تجنيد رودنسون في تشرين الثاني (نوفمبر) 1939، وتمكن من الحصول على تعيين في بلاد الشام عشية هزيمة حزيران (يونيو) 1940.

 

وقضى فترة الحرب هناك، حيث التقى في بيروت بقادة الحركة الشيوعية السورية اللبنانية. وتمكنت زوجته وابنه من الالتحاق به، لكن والديه، اللذين اعتبرهما نظام فيشي يهوديين أجنبيين سُلما إلى العدو النازي ورُحّلا إلى معسكر أوشفيتس، حيث لقيا مصرعهما في العام 1943.


حصل رودنسون عند عودته إلى فرنسا على وظيفة في قسم المطبوعات الشرقية في المكتبة الوطنية الفرنسية. وشهدت بداية الخمسينيات ذروة التزامه في الحزب الشيوعي الفرنسي وأجهزة النشر التابعة له، مثل مجلة الشرق الأوسط (Moyen-Orient 1950-1951).

 

ولكن، خلال النصف الثاني من ذلك العقد بدأت المسافة تتسع مع الحزب، في أعقاب اجتثاث الستالينية، وعلى الخصوص كرد فعل على أخطاء السياسة الاستعمارية للحزب الشيوعي الفرنسي. وبعد سلسلة من النزاعات حول مقالاته، قامت لجنة الرقابة السياسية المركزية بطرده مؤقتا من الحزب لمدة عام واحد في العام 1958. لكن رودنسون لم يطلب أبدا إعادة دمجه في الحزب، وكان قد خلَف في تلك الأثناء مارسيل كوهين على كرسي الأستاذية "للإثيوبية وجنوب شبه الجزيرة العربية" في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا. وشغل هذا المنصب حتى تقاعده في العام 1983.


اكتشاف "الأيديولوجيا الألمانية"


 

على الرغم من فصله من الحزب الشيوعي الفرنسي في العام 1958، لم يتخل مكسيم رودنسون أبدا عن الماركسية. بل إنه احتفظ منها بالمادية ونقد الأيديولوجيات التي مارسها كارل ماركس وفريدريك إنجلز في كتاب "الأيديولوجيا الألمانية"، والتي تشكل القاسم المشترك لفكره ووجوده.

 

وفي حوار مع جيرار خوري في أوائل سنوات الألفية، شرح رودنسون قطيعته مع الشيوعية المؤسسية وعبر عن شعوره بالانخداع بخطاب ديني غير عقلاني: "لقد كان عبئا بالنسبة للكثيرين -الذين دخلوا الحزب في البداية وهم يكرهون الدين كرها شديدا- أن يكتشفوا أننا دخلنا دينا جديدا! لقد حققنا قفزة إلى الشيوعية بدافع كراهية اللاعقلانية والأسطورية، فوجدنا أنفسنا محاصرين في قلب الأسطورية واللاعقلانية"!


في ثلاثينيات القرن الماضي، كانت المقارنات بين الشيوعية والدين شائعة. وقد لعبت خلال الحرب الباردة دورا لا يقل أهمية عن مفهوم الشمولية في حرب الأفكار بين الكتلتين، مثل مفهوم "الدين العلماني" لريموند آرون في فرنسا، أو "الديانات السياسية" لإريك فوغلين في الولايات المتحدة. لكن ما يميز مكسيم رودنسون ليس المقارنة بين الشيوعية والدين، وإنما كان الشيء الحاسم في إدراجها تحت مفهوم الأيديولوجيا، حيث وفر ماركس لرودنسون المفهوم الذي يسمح له بالتفكير في الخلفية المشتركة للشيوعية والدين بطريقة مختلفة عن آرون أو فوغلين، وبالتالي، التسامي عن الشعور بالمرارة والإذلال لأن الحزب خدعه، وهو شعور قوي إلى درجة أنه لم يكف أبدا عن كتابة وإعادة كتابة نقده الذاتي كشيوعي سابق.


الاستقلالية النسبية للدين

 


يجب التذكير بأن ماركس وإنجلز كتبا "الإيديولوجيا الألمانية" في 1845-1846 من دون إكماله، وقد صدر لأول مرة في موسكو في العام 1932، ولكن لم يبدأ المثقفون الماركسيون في الإشارة إليه بشكل منتظم إلا بعد الحرب العالمية الثانية. ومن دون الخوض في المناقشات العديدة التي أثارها تفسير هذا النص الصعب، يمكننا القول إن مكسيم رودنسون احتفظ بفكرتين رئيسيتين.

 

تتمثل الفكرة الأولى في استحالة صياغة تاريخ ديني مستقل من دون مراعاة الديناميات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وفي أعماله التي تعود إلى فترة الخمسينيات، والتي خُصصت لحياة نبي الإسلام وبلغت ذروتها في سيرة نبوية شهيرة نشرت في العام 1961 تحت عنوان "محمد" (ترجمت إلى خمس عشرة لغة)، يؤول رودنسون على هذا النحو تطور مقاربة المستشرقين لبدايات الإسلام: "لقد بلغنا حد التساؤل عما إذا كان الدين هو بالأحرى الغطاء الأيديولوجي، والقناع الروحي، والزخرفة السطحية لضروريات أعمق". وكنا هنا قريبين جدا من نظريات الانعكاس لبعض علماء الاجتماع الماركسيين في الأدب، لو لم يضف رودنسون على الفور أن الإسلام يجب أن يفهم على أنه "رد فعل ديني على وضع اجتماعي كلي".


تكمن الفكرة المهمة الثانية بالفعل، كما نرى، في الاستقلال النسبي للدين فيما يتعلق بالمجتمع. وبعبارة أخرى، تترجم الأيديولوجيا في لغتها الخاصة التناقضات التي تخالط المجتمع.

 

وفي حالة الإسلام، أدى التطور الاقتصادي السريع لمكة والحجاز في نهاية القرن السادس، إلى تفاقم عدم المساواة في الثروة والوضع الاجتماعي، وجعل المنطقة على علاقة وثيقة مع الشرق الأوسط وجنوب شبه الجزيرة العربية.

 

وقد تسبب ذلك في ظهور نزعات فردية في المجتمع المكي، تتعارض مع أيديولوجيا البداوة السائدة وقيمها المتمثلة في المساواة والشرف والكرم المتباهي؛ المروءة الشهيرة التي عبر عنها شعراء الجاهلية. وبالنسبة لرودنسون، الذي يصبح هنا دوركايميا (نسبة إلى عالم الاجتماع إيميل دوركايم)، يمكن فهم الرسالة الأولى للإسلام على أنها أيديولوجيا جديدة، تستغل الاتجاهات الاجتماعية والاقتصادية العاملة لتجديد بنية اجتماعية في طريقها إلى التفكك:


"استفاد محمد من الميول الفردية الموجودة بالفعل والتي لم يكن لها حتى ذلك الحين سوى دور مدمر تجاه الهياكل القديمة. وأضفى عليها قدسية مع الحفاظ أيضا على الهياكل المجتمعية، ليصل بالتالي إلى نظام جديد".


وهكذا، ظهر الإسلام كحل ممكن أمام التوتر القائم بين الهياكل الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع المكي، والتي تطورت بسرعة خلال القرن السادس، والذهنيات التي استمرت في الاعتماد على الحالة السابقة لهذا المجتمع. وتوفر الأيديولوجيا الجديدة حلا لكل من التوترات النفسية (الإسلام باعتباره دين الخلاص الفردي)، والتوترات الاجتماعية (الإسلام كأيديولوجيا لدولة عربية).
اليسار أمام تحدي تصفية الاستعمار


بينما كان رودنسون يكتب عن النبي محمد، كان الشرق الأوسط والمنطقة المغاربية يشهدان ذروة النضال للتخلص من الاستعمار ومناهضة الإمبريالية. وكان لزاما على اليسار الفرنسي آنذاك أن يواجه تحدي القومية العربية، في حين كان يتعين على الدول العربية المستقلة حديثاً أن تحدد، بعد المرحلة الإجماعية للنضالات من أجل الاستقلال، سياسات تنموية ملموسة.

 


تناول مكسيم رودنسون المسألة الوطنية (التي أسماها "الوطنياتية") على مستويين. فقد سلط الضوء أولا في منشورات عدة، ابتداء من العام 1967، على الطابع الاستعماري لدولة إسرائيل، ولعب دورا مهما، في وقت حرب حزيران (يونيو) 1967، في تحول المثقفين الفرنسيين الميالين لتأييد إسرائيل لصالح الفلسطينيين.


في كتاب رئيسي صدر في العام 1966 بعنوان "الإسلام والرأسمالية"، تناول رودنسون بشكل مباشر مسألة العلاقة بين الدين والتنمية الاقتصادية. وأبرز في كتابه أنه لا يوجد إسلام واحد، شامل وغير تاريخي، بل "إسلامات" متنوعة جدا، تحولت نتيجة الظروف التاريخية التي ازدهرت فيها.

 

وهذه الإسلامات عبارة عن إيديولوجيات، وبالتالي سيكون من الخطأ منهجياً -ومن غير المجدي سياسيا، إن لم نقل من الخطر- اعتبارها السبب الرئيسي للظواهر الاقتصادية. لم تمنع نداءات القرآن السخية للأعمال الخيرية ولا تحريم الربا تطور الرأسمالية التجارية والممارسات الائتمانية في الإسلام.

 

وبالتالي، لا يجب تقييم التوافق بين الإسلام والرأسمالية (وكذلك بين الإسلام والملكية الاجتماعية) وفقا لمقاربة ماهوية للإسلام، وهو ما يميز الإصلاحيين المسلمين ثم الإخوان المسلمين وأتباعهم، بل بالنظر إلى التاريخ الاقتصادي الملموس لبلدان الإسلام، وفي هذه الحالة، تاريخ الاستعمار الذي دمج العالم الإسلامي بحكم الأمر الواقع في الرأسمالية.

 

وقبل صدور الكتاب ببضعة أشهر، في نيسان (أبريل) 1965، زار رودنسون الجزائر العاصمة ليعرض في أحد المؤتمرات الأفكار التي طورها في كتاب "الإسلام والرأسمالية"، وقد حذر مستمعيه من مخاطر الغموض الذي تغذيه الاشتراكية العربية وحزب جبهة التحرير الوطني، حول العلاقة بين القومية والإسلام.

 

وكان قد اختتم كتاب الإسلام والرأسمالية بهذا التحذير: "إن التنظير العلماني لآليات المجتمع المساواتي هو أمر ضروري، ولا يمكن القيام به من خلال اللجوء فقط إلى المبادئ الدينية والأخلاقية، حتى لو كانت تضفي الشرعية على هذا المجتمع".

 

إيران، دور رجال الدين الشيعة


في نهاية السبعينيات، واجهت الدول الإسلامية فشل استراتيجيات التنمية التي وضعت غداة الاستقلال، وبشكل مرتبط، شهدت أسلمة تدريجية جديدة للفضاء العام والتشريعات الوطنية.

 

وقد خصص رودنسون عدة نصوص لهاتين الظاهرتين المترابطتين، معمقا التحليلات التي كان قد جاء بها في كتاب "الإسلام والرأسمالية". ومنذ كانون الأول (ديسمبر) 1978، نشر في صحيفة "لوموند" الفرنسية سلسلة من ثلاث مقالات بعنوان "انبعاث الإسلام"، والتي أظهر فيها بصيرة أكبر من معظم المثقفين الفرنسيين في ذلك الوقت، مبرزا أن رجال الدين الشيعة يمارسون لعبتهم الخاصة ويعملون على تحويل مسار الثورة الإيرانية لصالحهم.


حاول رودنسون في هذه المقالات تحديد طبيعة علاقة التقارب بين الإسلام والأصولية. وأشار إلى عاملين يميزان الإسلام والمسيحية في علاقتهما بالأصولية، التي تُعرف على أنها "التطلع إلى حل جميع المشاكل الاجتماعية والسياسية عن طريق الدين، وفي الوقت نفسه، استعادة الإيمان الكامل بالعقائد والشعائر". وفي مقال علمي نشر في العام 1984 بعنوان "الأصولية الإسلامية والأصولية الدائمة: محاولة للشرح"، ميّز أولاً بين يسوع، الذي كان مجرد واعظ يهودي، ومحمد، الذي فرض عليه الوضع التاريخي لشبه الجزيرة العربية في عصره، أن يكون أيضا مشرعا:


"في الإسلام، العامل الأساسي الذي يشجع على اللجوء إلى الأصولية السياسية هو تشكيل جماعة المؤمنين (الأمة)، في أعقاب الظروف التاريخية لتكوينها الأول، ضمن بنية سياسية دينية (1)".


يجب التمييز هنا بشكل واضح بين تقديس الشريعة خلال القرون الأولى للإسلام، الذي جعل من محمد ذلك النبي-المشرع الذي يتحدث عنه رودنسون، وبين الشعور بالانتماء إلى الأمة، الذي زادت قوته وفعاليته بشكل كبير ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر، من خلال التواصل الشبكي للعالم الإسلامي، أولاً بفضل التلغراف والصحافة المكتوبة والباخرة، والآن بفضل الهاتف والتلفزيون والإنترنت.


ومن ناحية أخرى، لم يشهد العالم الإسلامي علمنة مماثلة لتلك التي عرفتها أوروبا الحديثة، ليس لأن الإسلام مانع لذلك بطبيعته، ولكن بسبب تأخر التصنيع في العالم الثالث الإسلامي ووجود أعداد كبيرة من الأقليات غير المسلمة بين المسلمين، مما أسهم لفترة طويلة في جعل الانتماء الديني إحدى سمات الانتماء المجتمعي. لكل هذه الأسباب، ما تزال الجماهير الشعبية تنسب مصائب الزمن إلى كفر القادة أو فسادهم الأخلاقي؛ وتظل غير قادرة على تقديم تفسير منهجي منتظِم (على سبيل المثال، من خلال علاقات الإنتاج أو الإمبريالية) لوضعها. لذلك يدافع رودنسون عن فكرة أن الأصولية الإسلامية يمكن أن تتجه نحو مسارات أخرى غير الأصولية الكاثوليكية والأصولية البروتستانتية، التي شهدت هي أيضا انتعاشا كبيرا في وقت الحرب الباردة.

 

مسؤولية النخب التحديثية


يرى رودنسون أيضا أن النخب التحديثية في البلدان الإسلامية، بعيدا عن تشجيع رؤية علمانية للعالم، استعملت على العكس من ذلك الأخلاقية التقية التي نسبتها إلى الجماهير الشعبية، كوسيلة لتمرير إيديولوجياتها القومية أو الاشتراكية.

 

وقد فقد الليبراليون والاشتراكيون العرب مصداقيتهم بسبب فشلهم الاقتصادي، ووقعوا في فخهم الذاتي وعبّدوا الطريق للأصولية الإسلامية: "يصبح النضال من أجل هذه المُثُل تحت رايتها أكثر إقناعا من الارتباط أيديولوجيا بأجانب ذوي دوافع مشبوهة كما تقترحها كل من القوميات الماركسية والاشتراكية" (2).


لم يتنبأ رودنسون بالنجاح لهؤلاء الأصوليين، لأن الدين يظل بالنسبة له أيديولوجية غير كافية لتحديد أداء الاقتصاد أو المجتمع. ولذلك، فإن الأحزاب الإسلامية ستواجه المعضلة نفسها التي واجهت أسلافها: إما التكيف مع الرأسمالية المعولمة وتمويهها تحت "إيماءات الإسلامية"، أو الانزلاق نحو "فاشية ماضوية" تختزل الدين في نظام أخلاقي.

 

ويجسد المسار الأول الحزب الديمقراطي التركي، الذي مارس السلطة بين العامين 1950 و1960 (قد نفكر اليوم في "حزب العدالة والتنمية" لرجب طيب أردوغان)؛ ويتجسد المسار الثاني في الإخوان المسلمين (وقد نفكر في طالبان أفغانستان). وكما كتب في شباط (فبراير) 1979 في مجلة "لو نوفيل أوبسرفاتور" الأسبوعية بعد وقت قصير من عودة الخميني إلى إيران:


"إن الأديان ليست خطيرة لأنها تدعو إلى الإيمان بالله، ولكن لأنها لا تملك علاجا آخر غير الموعظة الأخلاقية للأمراض المتأصلة في المجتمع.

 

وكلما زاد اعتقاد اعتقاد حامليها بأن لديهم مثل هذه العلاجات، زاد تقديسهم للوضع الاجتماعي القائم الذي يناسب المسؤولين التنفيذيين في أغلب الأحيان. وعند وصولهم إلى السلطة، سوف يستسلمون،  باسم الإصلاح الأخلاقي، لإغراء فرض نظام يحمل الاسم نفسه".


منطلقا من الأيديولوجيا بالمعنى الماركسي للكلمة، أثرى مكسيم رودنسون تدريجيا فهمه لمفهوم علم الاجتماع. وقد ظل  وفيا لمرجع "الأيديولوجيا الألمانية"، فعرّف الأيديولوجيا في مرحلة أولى على أنها مجموعة العلاقات التي يعتقد المجتمع أنه يقيمها مع عالم التجربة.

 

ويضيف أن هذه الأيديولوجيات تحملها مجموعات اجتماعية، بعضها شكل في نهاية المطاف "كنائس-أحزاب كونية". وحولت الحداثة الرأسمالية تدريجيا هذه الحركات إلى أحزاب أيديولوجية خالصة، لم تعد برامجها تشير بشكل أساسي إلى الحياة الآخرة: هنا، على هذه الأرض، وجب تحقيق الوعود. وبذلك تتحول الحركة الأيديولوجية إلى نضال وتتبنى برنامجا اجتماعيا-سياسيا دنيويا.


مع ذلك، تكمن نقطة التلاشي للأيديولوجية الكونية وطابعها الطوباوي في التباطن بين المجتمع والكنيسة، وبعبارة أخرى، في أهدافها الشمولية. وفي اللحظة التي تكون فيها اليوتوبيا على وشك التحقق، فإنها تتحول إلى أيديولوجيا (هنا بالمعنى الازدرائي العام) وتتوقف عن كونها نضالية، وتستبدل برنامجها الاجتماعي السياسي الدنيوي بالمواعظ الأخلاقية أو بمثالية حسنة الشكل.

 

ويمكن لليوتوبيا القديمة التي أصبحت أيديولوجيا أن تواجه بدورها تحديا من قبل يوتوبيا جديدة، تدافع عنها فئة اجتماعية صاعدة (مثقفون، طبقة اجتماعية، مؤمنون يأخذون دينهم على محمل الجد).


بالنسبة لرودنسون، كان تسييس الإسلام وصعود الأصولية الإسلامية نتيجة حتمية لإخضاع الدول الإسلامية للقوى الرأسمالية الأوروبية، وهو إخضاع يعيق العلمنة ويدفع إلى استغلال الدين من قبل النخب التحديثية المقتنعة بضرورة "الحديث بلغة الدين" مع الجماهير الجاهلة، أو من قبل أحزاب دينية مقتنعة بفعالية الدين كرافعة لتغيير المجتمع.

 

التفسيرات المثالية


مع العودة القوية للتفسيرات المثالية لتاريخ الإسلام، أو تفسير التاريخ من خلال الإسلام، من المجدي إعادة قراءة رودنسون الذي كان يرى أن التفسير من خلال الدين هو الملاذ الأسوأ عندما تكون المعرفة التاريخية غير كافية.

 

ولم يكن سوى التاريخ الغربي، المعروف أكثر من تاريخ أجزاء أخرى من العالم، هو الذي كان قادرا، إلى حد كبير، على تجنب السببية الأحادية الساحقة للتفسيرات الأيديولوجية. وفي المقابل، لا ينبغي إهمال العوامل الدينية والثقافية التي يمكن تفسير أهميتها، في حالة الإسلام، من خلال الدور الحاسم الذي يلعبه منذ القرن التاسع عشر، ليس فقط لدى الأصوليين، ولكن أيضا -وفي وقت أسبق- لدى خصومهم الليبراليين والاشتراكيين.


يرى رودنسون أنه لا يجب البحث عن جذور أدلجة الإسلام في الإسلام نفسه -على الرغم من أنه لا يتردد في إبراز الخصائص المحددة للإسلام التي يمكن بها لمثل هذه الأدلجة أن تتطور- بقدر ما يجب البحث عنها في مجموع التحولات التي تشهدها البلدان الإسلامية المدمجة بشكل وثيق وتحت الهيمنة، في الاقتصاد العالمي الذي يهيمن عليه الغرب.


لم يتنازل مكسيم رودنسون أبدا عن عقلانيته الموروثة عن عصر التنوير الفرنسي، وجعله ذلك قريبا من المؤرخين اليساريين والشيوعيين السابقين مثل بيير فيدال ناكي (1930-2006)، وجان بيير فيرنانت (1914-2007). وكان فيرنانت هو من قدم لرودنسون، في العام 1991، الجائزة السنوية للاتحاد العقلاني، وهي جمعية موقرة أسسها الفيزيائي بول لانجفان في العام 1930.

 

وكانت الجمعية لفترة تحت سيطرة الحزب الشيوعي، وأصبحت بعد ذلك، في الخمسينيات والستينيات، مكان تجمع للشيوعيين المناهضين للستالينية الذين يرغبون في إقامة حوار بين الماركسية والعلوم الاجتماعية.

 

وبالنسبة إلى رودنسون، كان يجب على الإسلام (وهو ما سيحدث) أن يتخذ مسار العلمنة الغربية: حصر تعبيرات الإيمان في المجال الخاص وحجز المجال العام للتداول الديمقراطي القائم على العقل المعلمن. لكن تقلبات العقود الأخيرة أظهرت أن هذا التطور لم يكن أكيداً بأي حال من الأحوال، وأن تعريف الإسلام ذاته هو الذي كان على المحك.


يبقى المستقبل غير مؤكد، ولم يعد يُنظر إلى العلمنة على أنها أمر حتمي. وهو السبب -كما كتب الماركسي اللبناني جلبير أشقر، العليم بأعمال رودنسون الذي التقى به شخصيا- الذي يجعل من "النضال ضد الأصولية الإسلامية؛ ضد أفكارها الاجتماعية والأخلاقية والسياسية، وليس ضد المبادئ الروحية الأساسية للدين الإسلامي، إحدى أولويات التقدميين داخل المجتمعات الإسلامية" (3).

 

وهو نضال لا يتضمن، كما رأينا، معركة الأفكار فحسب، بل يشمل أيضا، بالقدر نفسه، الكفاح ضد رأس المال والإمبريالية، اللذين يشكلان الوقود المغذي للأصولية.

*رونو سولر: يحمل درجة الدكتوراه في اللغة العربية والدكتوراه في التاريخ. أستاذ مبرّز في التاريخ ومحاضر في علم الإسلام والفكر الإسلامي (من القرن الثامن إلى القرن الثامن عشر) في جامعة ستراسبورغ (كلية اللغات، قسم الدراسات العربية). ترجم المقال من الفرنسية حميد العربي.
هوامش:
(1) الأصولية الإسلامية والأصولية الدائمة: محاولة للشرح. L’intégrisme musulman et l’intégrisme de toujours. Essai d’explication", L’Islam politique et croyance, Fayard, 1993, p. 244.
(2) "انبعاث الإسلام" - سبق ذكره.
(3) الماركسية والدين والاستشراق - جلبير أشقر، دار الآداب.

 

اقرأ المزيد في ترجمات