ماري ديجيفسكي* - (إندبندنت) 13 آب (أغسطس) 2023
لم تنجح المناورة العسكرية التي حظيت بترقب واسع النطاق في إحراز مكاسب كبيرة لأوكرانيا.
* * *
ما الذي حل بالهجوم الأوكراني المضاد الذي كان مرتقباً في الربيع؟ كانت الخطوة منتظرة بحماس خلال معظم فترة الستة أشهر الماضية، سواء داخل أوكرانيا أم خارجها، باعتباره التحرك الذي سيحدد مسار الحرب ويعيد القوات الروسية إلى ديارها، كما أمل كثيرون.
لكن الوضع تغير الآن. فمع اقتراب نهاية الصيف وبداية الخريف، تُطرح بعض التساؤلات الأساسية بشأن هذا الهجوم المضاد. هل نُفذ وانتهى؟ هل شن أساساً؟ وإذا حدث ذلك، فوفق أي خطة؟ وهل سيحمل ربيع العام 2024 معه خطابات مشابهة؟
ليس من السهل الإجابة عن هذه التساؤلات لأسباب من أهمها نقص المعلومات الصادرة عن الجانبين. فأوكرانيا تتكتم على تحركاتها العسكرية المستقبلية وتتعامل مع حصيلة الضحايا باعتبارها سر دولة، وهو أمر مفهوم. أما التقارير الواردة من روسيا فإما محظورة في جزئها الأكبر في دول الغرب، أو غير موثوق بها إلى درجة كبيرة. وفي ما يخص إمكانية وصول الصحفيين إلى الخطوط الأمامية، فهي خطرة ويتحكم بها المسؤولون الإعلاميون الأوكرانيون بدرجة متزايدة أيضاً.
ربما لا يسعنا سوى أن نستنتج خلاصتين اثنتين بثقة. أولاهما أن وقت انطلاق عملية شن الهجوم الأوكراني المضاد قد تأخر عن الوقت المتوقع، وبينما تقدم بوتيرة أبطأ من المتوقع. وهو ما نعرفه بسبب تكرار الرئيس زيلينسكي نفسه هذه المعلومات، وعادة ما لا يقلل قادة الحرب الوطنيون من شأن إنجازات قواتهم.
أما الخلاصة الثانية، مجددًا، فهي أنه ترتب على أوكرانيا في موضوع شن الهجوم المضاد ثمن باهظ من حيث حصيلة الضحايا والخسائر في المعدات. وقد شهد المراسلون الأجانب مناظر مريعة على الجبهة، واستمعوا مباشرة إلى تقارير الجنود العائدين من المعركة. وليست هذه صورة مستندة إلى البروباغندا الروسية.
في الوقت نفسه -وهذا سبب إضافي لانعدام اليقين- لا أحد يعرف ما قد يحصل غداً. وليس الولاء لأوكرانيا هو السبب الوحيد الذي جعل العديد من المراقبين الخارجيين يترددون في إعلان فشل الهجوم المضاد. إن السبب هو أن هذه الحرب حملت في جعبتها مفاجآت كثيرة جداً، ويتعلق عدد كبير منها بشجاعة الأوكرانيين وقدرتهم على الابتكار، وهو ما يجعل التصريحات الحاسمة تحمل بعض المخاطرة.
قد نتحسر على فشل الهجوم الأوكراني المضاد في الليل قبل أن نستيقظ في الصباح التالي على صور القوات الأوكرانية وقد اخترقت الخطوط الروسية، وقطعت جسر كيرتش وأعادت بسط سيطرتها على مواقع استراتيجية على امتداد الضفة الشرقية لنهر دنيبر. ويظل هذا الأمل موجوداً حتى بينما يبدو أن الوقت ينفد لتحقيق اختراق أوكراني مهم.
كما يعتمد أي تقييم للهجوم الأوكراني المضاد على شكل مخططات الهجوم الأساسية في المقام الأول. ويظهر أن هناك درجة من عدم التطابق بين المخططات الحقيقية التي وضعها زيلينسكي وجنرالاته من جهة، والتوقعات التي أثاروها من جهة أخرى -سواء عن قصد أم غير ذلك- في واشنطن وغيرها من العواصم الغربية.
لقد ساد انطباع عام، سواء كان عن صواب أو خطأ، خارج أوكرانيا على الأقل، بأن الهجوم المضاد سيبدأ فور جفاف التربة بما يكفي بعد ذوبان الثلوج في الربيع، بشكل يسمح بتحريك المعدات الثقيلة، وأنه سيمتد على طول جزء كبير من الجبهة الأمامية الشرقية، وأن هدفه سيكون عبور نهر دنيبر، وقطع الممر البري نحو شبه جزيرة القرم الذي أنشأته روسيا بعد انتصارها في معركة ماريوبول، واستعادة الأراضي المحتلة في جنوب شرقي أوكرانيا -أو حتى استعادة القرم أيضاً.
إذا كان هذا هو الهدف المرجو من العملية، فيبدو أنه كان غير واقعي –ما لم ينجح بفعل الحظ فقط– وأن الهجوم المضاد قد فشل. ولكن ألا يشكل هذا الهدف السيناريو الأمثل فحسب؟ إلى أي درجة يحتمل أن تكون كييف قد تعمدت تضخيم حجم مخططاتها وقرب تنفيذها بغية الحفاظ على اهتمام داعميها في الغرب وتسريع إرسالهم التجهيزات العسكرية؟
مما لا شك فيه أن المسؤولين الأوكرانيين ربطوا تأخير إطلاق هجومهم المضاد ظاهرياً بالشكاوى المتعلقة ببطء تسليم المعدات العسكرية. وكانت دبابات "أبرامز" الأميركية و"ليوبارد" الألمانية إحدى القضايا التي جرى التحدث عنها على نطاق واسع، فيما شكلت القوة الجوية مسألة أخرى من هذا النوع. وكانت مناشدات أوكرانيا من أجل الحصول على مقاتلات من طراز "أف- 16" غير واقعية، بالنظر إلى الوقت المطلوب لتدريب الطيارين وفرق الصيانة. وعندها وُعد الأوكران بالحصول على مزيد من طائرات من طراز "ميغ" من الحقبة السوفياتية.
ولكن، أشير بشكل كبير إلى غياب الغطاء الجوي لتقدم القوات الأوكرانية في اتجاه الخطوط الروسية باعتباره نقطة ضعف حدّت من تقدم الأوكرانيين، ورفعت حصيلة ضحاياهم في الوقت نفسه.
وزعمت تقارير حديثة نشرها الإعلام الأميركي أن المسؤولين العسكريين الغربيين علموا تماماً أن كييف لا تملك التدريب ولا الأسلحة المطلوبة لطرد القوات الروسية، لكنهم كانوا يعتمدون على "الشجاعة والحيلة الأوكرانية" كي تعدل كفة الميزان. فهل تلوم أوكرانيا حلفاءها يوماً ما على هدر أرواح الأوكرانيين بتهور؟
وهناك أيضاً البعد الروسي. فحتى لو كانت خطة أوكرانيا تقضي بشن عملية هجوم مضاد على عدة جبهات وقطع الخطوط الروسية بسرعة، إلى أي مدى يعكس عجزها عن تحقيق هذا الهدف حتى الآن ضعفها الخاص؟ وإلى أي مدى يعكس استخفافاً بالقوة الروسية؟ بعد تلقيها تحذيراً وافياً في شأن الهجوم المضاد المرتقب، أنشأت روسيا عدة خطوط دفاعية من بينها خنادق وحقول ألغام، والتي أثبتت فعالية أكبر بكثير مما كانت أوكرانيا مستعدة له على ما يبدو.
نخطئ لو قلنا أن أوكرانيا لم تحرز أي تقدم على الإطلاق، لكن مكاسبها ضئيلة ومتفرقة نسبياً. لم تتمكن قوات كييف من النجاح في عملية عبور النهر الحيوية بغية استعادة الأراضي الواقعة على الضفة الشرقية.
وقد وردت في الأيام الأخيرة تقارير عن عبور بضعة قوارب صغيرة إلى الجانب الشرقي قرب مدينة خيرسون الواقعة تحت سيطرة الأوكرانيين، لكن الأنباء متضاربة حول ما إذا تمكن القوات من إنشاء رأس جسر أو -كما قال المسؤولون الروس– تم دحرهم. وفي كلتا الحالتين، كان العبور أصغر من أن يسجَّل على أنه تقدم كبير.
في ظل ضآلة هذا التقدم، يبدو أن أوكرانيا حولت مقاربتها من هجومها البري الذي تباهت به كثيراً، إلى هجوم مضاد عبر وسائل أخرى، هدفه إزعاج روسيا وزعزعتها في الداخل. ويشمل هذا الهجوم تسديد ضربات إلى مستودعات الذخيرة ومصانع الأسلحة وغيرها من الأهداف، وضربات بواسطة المسيرات تطال حتى موسكو والمرافئ الروسية على البحر الأسود، وتنفيذ هجمات على جسر كيرتش الذي يصل البر الروسي بشبه جزيرة القرم.
يبدو أن أوكرانيا تقدر أن شعور انعدام الأمن سيطغى في روسيا لدرجة قد تجعل موسكو تتساءل عما إذا كانت المكاسب الميدانية التي تحققها تستحق هذه الخسائر، لكن هذا التحول في المقاربة تصاحبه بعض المخاطر. فقد تقرر روسيا الرد بشكل أقوى على كييف وعلى مناطق غربي أوكرانيا التي نجت حتى الآن بشكل عام، وقد تبدأ الضربات المتبادلة على الموانئ بنشر النزاع في منطقة البحر الأسود.
كما أن هناك معطيات أخرى يستحيل تقديرها. كان قرار الولايات المتحدة بتزويد أوكرانيا بقنابل عنقودية مؤشرًا على نفاد مخزونات ذخائر أخرى. ومع اقتراب الخريف، يقترب الجو الماطر الذي سيعوق تقدم العمليات الأوكرانية براً. ولن يقف الإحباط عند معنويات الروس، بل إنه قد يمتد إلى الأوكرانيين، على ضوء اتضاح حجم حصيلة الضحايا والحاجة إلى عمليات تجنيد جديدة.
كما أن أوكرانيا لم تنجح في ضمان الالتزام بضمها إلى حلف الناتو خلال اجتماع القمة الذي عُقد الشهر الماضي، وهو ما أثار استياء زيلينسكي.
تكثر مواضع انعدام اليقين في المشهد الأكبر أيضاً. تشهد بولندا التي تصدرت الجهات الداعمة لأوكرانيا في أوروبا وفي الناتو انتخابات عامة في أكتوبر (تشرين الأول)، بينما تنطلق الحملة الرئاسية الأميركية.
ولم يعد الدعم البريطاني لأوكرانيا على ما يبدو غير مشروط تماماً كما كان أثناء تولي بوريس جونسون رئاسة الوزراء. وربما بسبب إدراكها لاحتمال التغيير في الرياح الدولية بدأت أوكرانيا في البحث عن دعم دبلوماسي في أماكن أبعد، بما فيها خلال اجتماع 40 دولة عقد، أخيراً، في السعودية.
في النهاية، قد توفر كل هذه التطورات مجتمعة إجابة أفضل عن التساؤلات بشأن الهجوم الأوكراني المضاد من كل ما يحدث، أو لا يحدث، في الميدان. وحتى لو تمكنت أوكرانيا من إحراز الاختراق الخارق الذي أملت به، فإن قطع الممر الروسي البري نحو القرم قد لا يضمن لها الانتصار بعد الآن. لقد فات الأوان على ذلك.
*ماري ديجيفسكي: كاتبة في صحيفة "الإندبندنت" متخصصة في الشؤون الخارجية. عملت مراسلة للصحيفة في موسكو وباريس وواشنطن. وكتبت حول انهيار الشيوعية والاتحاد السوفياتي السابق من داخل موسكو، كما غطت حرب العراق. وهي مهتمة بالعلاقات الدبلوماسية بين الكرملين والغرب.
اقرأ أيضا في ترجمات:
حرب أوكرانيا: عالم جديد متعدد الأقطاب آخذ في الظهور