عند التدقيق في إرث "اتفاقيات أوسلو"، يمكن استنتاج حصيلة واضحة، وهي الطريقة التي تستطيع بها الإنجازات الدبلوماسية، وكذلك إخفاقاتها، أن تؤثر في الرأي العام في ما يتعلق بالصراع. فبعد ثلاثين عامًا على "اتفاقيات أوسلو"، تشير استطلاعات الرأي العام الحديثة إلى أن هناك تراجعًا عميقًا في مستوى الثقة والدعم لحلّ الدولتين في المجتمع الفلسطيني (إلى جانب المجتمع الإسرائيلي)، علاوة على انتشار المفاهيم الخاطئة لدى كل منهما عن الآخر.
* * *
في تسعينيات القرن الماضي، ساهمت الجهود المبذولة للمضي قدمًا بعملية السلام، وفق الشروط المنصوص عليها في اتفاقيات أوسلو، في إيجاد نافذة أمل داخل المجتمع الإسرائيلي والفلسطيني، أبرزتها استطلاعات الرأي العام التي تم إجراؤها منذ ذلك الحين. وفى هذا السياق، تُظهر نتائج استطلاعات الرأي العام الفلسطيني التي أجراها خبير الاستطلاعات، خليل الشقاقي، وفريقه، تزايد التأييد لـ"معسكر السلام " خلال السنوات التي بدت فيها عملية أوسلو قابلة للتطبيق. وعلى الرغم من ظهور إخفاقات، إلا أن نسبة التأييد لعملية "أوسلو 2" وصلت إلى 72 في المائة في العام 1995.
إلا أن إرث "اتفاقيات أوسلو" بدأ في الاضمحلال منذ ذلك الحين، حيث أفادت الغالبية العظمى من المستطلعة آراؤهم في استطلاع أجراه "مركز القدس للإعلام والاتصال" في العام 2018 بأن "اتفاقيات أوسلو" إما تضر بالمصالح الوطنية الفلسطينية (47 في المائة)، أو أنها لا تحدث فرقًا (34 في المائة). كما أن مواقف الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني انقلبت ضد المبدأ الأساسي لعملية السلام المتمثل في حلّ الدولتين.
أظهر استطلاع الرأي العام على مدى السنوات اللاحقة أن تأييد حل الدولتين الذي ارتكزت عليه عملية السلام أصبح مقتصرًا على أقلية من اليهود الإسرائيليين والشعب الفلسطيني، وراوح في مكانه بين الأقلية بعد العام 2017 من دون أي بوادر انتعاش. ومن المفارقات أن الاتجاهات في المواقف الإسرائيلية اليهودية والفلسطينية بشأن هذه المسألة في الفترة ما بين 2016-2022 تكاد تكون متطابقة من الناحية الإحصائية. في آخر استبيان أجراه الشقاقي في كانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي، لجس نبض الإسرائيليين والفلسطينيين، أعرب 33 في المائة فقط من الفلسطينيين (28 في المائة في الضفة الغربية و41 في المائة من فلسطينيي غزة)، و34 في المائة من اليهود الإسرائيليين، عن دعمهم لمشروع حل الدولتين. بينما كانت نسبة العرب الإسرائيليين لافتة حيث بدت كأنها خروج عن المألوف، حيث بلغت 60 في المائة.
وفي ما يتعلق بمسألة الثقة في الطرف الآخر، بلغت نسبة الذين لا يوافقون على أن من الممكن الوثوق باليهود الإسرائيليين 88 في المائة من سكان الضفة الغربية و81 في المائة من سكان غزة، بينما كانت نسبة اليهود الإسرائيليين الذي يقولون الأمر نفسه عن الفلسطينيين 85 في المائة. ومرة أخرى، خرج العرب الإسرائيليون عن المألوف إذ وافق نصفهم على إمكانية تحقيق الثقة بين الطرفين. وتسهل رؤية انعدام الثقة العام هذا لدى كلا الطرفين من خلال مجموعة من الإجابات تناولت نوايا الطرف الآخر أو احتمالية احترامه لأي التزامات مستقبلية.
سلط استطلاع الرأي الأخير الذي أجراه "معهد واشنطن" في تموز (يوليو) بين الفلسطينيين، الضوء على دور العنف في تشكيل المواقف نحو أي تقدم يتعلق بالصراع. وفي هذا الصدد، هناك توقعات واسعة في كل من غزة والضفة الغربية لحدوث تدخل عسكري إسرائيلي وشيك، إذ يعتقد 65 في المائة من سكان غزة أنه من "المحتمل إلى حدّ ما" أن ينشب صراع عسكري كبير بين إسرائيل و"حماس" في قطاع غزة هذا العام، في حين عبّرت نسبة مماثلة من سكان الضفة الغربية (61 في المائة) عن الرأي ذاته بشأن عملية عسكرية إسرائيلية كبيرة في الضفة الغربية، وهي وجهة نظر تأثرت على الأرجح بالتوغل العسكري الإسرائيلي في جنين قبل إجراء الاستطلاع.
ويرى الكثيرون من فلسطينيي الضفة الغربية أن وقف التوغلات العسكرية أو الأمنية في مدن المنطقة "أ" (26 في المائة) أو أعمال العنف التي يرتكبها المستوطنون (29 في المائة) هو من المؤشرات الرئيسية التي تدل على رغبة إسرائيل في حلّ الدولتين. ويحظى هذان الخياران بتأييد كبير مقارنةً بتشارك القدس كعاصمة (10 في المائة)، أو السماح بمزيد من حرية الحركة (16 في المائة) أو إطلاق سراح المزيد من الأسرى الفلسطينيين (17 في المائة).
شهدت نسبة الدعم لشن هجمات فلسطينية ضد الإسرائيليين ارتفاعًا أيضًا، وهو ما يشير الى حدوث تغيير كبير في المواقف السائدة خلال السنوات التي تلت "عملية أوسلو". ففي الفترة ما بين شهري آب (أغسطس) وأيلول (سبتمبر) 1995، قام الشقاقي بقياس التأييد الفلسطيني لشن هجمات على أهداف مدنية إسرائيلية، وتبين أن نسبته لم تتجاوز 15 في المائة. في المقابل، تفيد الاستطلاعات الحالية التي يجريها "معهد واشنطن" بأن غالبية سكان غزة وفلسطينيي الضفة الغربية (59 في المائة)، وإنما ليس سكان القدس الشرقية، يرون أنه من الجيد أن يقوم الفلسطينيون بمهاجمة الإسرائيليين، مع وجود تغيير طفيف في نسبة هؤلاء الذين يقولون إن الهجمات الفلسطينية ضد الجيش الإسرائيلي، أو المستوطنين، أو "جميع اليهود الإسرائيليين" جيدة. وفي الوقت عينه، انخفضت نسبة الفلسطينيين الذين يرفضون هذا الرأي بشكل مطرد في الضفة الغربية على وجه الخصوص -مع زيادة في نسبة الذين يقولون إن مثل هذه الهجمات "جيدة"، بنسبة سبع عشرة نقطة مئوية منذ العام 2019، كما تحظى الجماعات المسلحة مثل مجموعة "عرين الأسود" أيضًا بدعم شعبي.
بالإضافة إلى ذلك، هناك عدة عوامل تدفع نحو هذا التأييد للكفاح المسلح، حيث يعكس الانقطاع في الضفة الغربية بشكل خاص فشل عملية أوسلو في توجيه الجانبين نحو فهم، أو حتى معرفة الحقائق الأساسية المتعلقة بالآخر. ويتجلى ذلك بشكل واضح في خطاب قيادات الحكومات الملتزمة نظريًا بفكرة بحل الدولتين. وأبرز مثال على ذلك، التعليقات الحديثة والسابقة لمحمود عباس التي تكرر بطريقة مجازية مقولات معاداة السامية وتنكر الارتباط اليهودي بالأرض ومعاداة السامية المتأصلة في المحرقة "الهولوكوست". كما كانت هناك تعليقات مماثلة من وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، التي وصف فيها الفلسطينيين بأنهم "اختراع" ودعا إلى "القضاء" على بلدة حوارة بالضفة الغربية بعد هجوم فلسطيني.
لكن هناك قضية أساسية أخرى قد تساهم في ترسيخ تلك الآراء الداعمة للكفاح المسلح، منها الافتقار العميق إلى المعلومات بين نسبة كبيرة من الفلسطينيين حول بعض الحقائق الأساسية المتعلقة بإسرائيل المجاورة. فعندما طُلب منهم إعطاء أفضل تقديراتهم حول عدد السكان اليهود الإسرائيليين، كان لدى معظم سكان القدس الشرقية فكرة عن الرقم الصحيح (تشير آخر تقديرات التعداد السكاني للعام 2021 إلى حوالى 7.4 مليون نسمة). وفي المقابل، يقدّر 45 في المائة من سكان الضفة الغربية وحوالي نصف الفلسطينيين في قطاع غزة أن عدد اليهود في إسرائيل اليوم لا يتجاوز المليون.
يفيد الكثير من فلسطينيي الضفة الغربية -وخاصة أولئك الذين يعيشون في الشمال وليس المناطق المتصلة نسبيًا بالقرب من القدس، بأنهم لا يقابلون اليهود الإسرائيليين إلا من خلال المستوطنات والتوغلات العسكرية. وفي هذا الإطار، قال ما نسبتهم 56 في المائة من فلسطينيي الضفة الغربية في استطلاع أجراه "المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية" أنهم شهدوا شخصيًا مقتل أو إصابة فلسطيني نتيجة لهجوم إسرائيلي. كما يرتبط أيضًا الافتقار إلى المعرفة الأساسية بالمجتمع الإسرائيلي الأوسع بتأييد الهجمات على المدنيين. فقد أظهر استطلاع أجراه "معهد واشنطن" في الضفة الغربية أن هناك زيادة قدرها 22 نقطة مئوية في عدد الذين يقولون إن مهاجمة "جميع اليهود الإسرائيليين" هو أمر سيئ بين سكان الضفة الغربية الذين لديهم تصور أكثر واقعية للتركيبة السكانية اليهودية الإسرائيلية. وعلى النقيض من ذلك، تختلف الديناميات في غزة، حيث يبدو أن المستجيبين الذين يقللون بشكل كبير من أهمية هذه الإحصائيات، هم أقل اهتمامًا بالصراع ككل -ومن الأرجح أن يقولوا أن الصراع "مقصور فقط على السياسيين وكبار السن، كما أنهم منفتحين على الصداقة مع الإسرائيليين في يوم من الأيام.
في المقابل، يمكن للعينة الفرعية من فلسطينيي القدس الشرقية في استطلاع "معهد واشنطن" أن تفيد بالمعلومات حول الفرق الذي يمكن أن يحدثه الاتصال الفعلي خارج إطار النزاعات على الرأي العام. ويختلف النهج الذي يعتمده هذا المجتمع الفلسطيني، الذي يتواصل على مستوى أعمق بكثير مع المجتمع الإسرائيلي على الرغم من التحديات الكبيرة التي يواجهها، تجاه الصراع والعلاقات مع إسرائيل اختلافًا كبيرًا عن نهج سكان الضفة الغربية وقطاع غزة.
على عكس عدد كبير من الفلسطينيين الذين يؤيدون الأولوية الوطنية الفلسطينية المتمثلة في "تصعيد المقاومة ضد إسرائيل، حتى وإن كان ذلك سيصعب الأمور في الوقت الحالي" (41 في المائة في الضفة الغربية و47 في المائة في قطاع غزة)، ترى أغلبية فلسطينيي القدس الشرقية (46 في المائة) أنه يجب صب التركيز على المفاوضات. وعندما سُئلوا عما إذا كانوا يوافقون على عبارة "أتمنى أن نصبح أصدقاءً مع الإسرائيليين يومًا ما، فنحن جميعنا بشر في النهاية"، أجاب نحو ثلثي سكان القدس الشرقية (63 في المائة) بأنهم يتمنون ذلك مقارنة بنسبة 42 في المائة من سكان غزة و29 في المائة فقط من سكان الضفة الغربية. وفي ما يتعلق بقبول المبدأ الجوهري لحلّ الدولتين، أي "دولتان لشعبين"، إذا كان ذلك سيساعد في إنهاء الاحتلال، جاءت الإجابة إيجابية من نسبة مماثلة من سكان القدس الشرقية بلغت 64 في المائة.
هناك الكثيرون في المجتمع الفلسطيني منفتحون على تكثيف الاتصالات مع الإسرائيليين. وبخصوص اقتراح أنه "يجب على الفلسطينيين تشجيع العلاقات الشخصية المباشرة والحوار مع الإسرائيليين من أجل مساعدة دعاة السلام الإسرائيليين في دعم الحل العادل"، كان الردّ إيجابيًا بنسبة 55 في المائة من فلسطينيي الضفة الغربية، و64 في المائة من سكان غزة، و74 في المائة من سكان القدس الشرقية. وفي حين أن الفلسطينيين (والإسرائيليين) قد يرفضون الآن حلّ الدولتين، فإن أعدادًا كبيرة من الفلسطينيين خارج القدس الشرقية (47 في المائة في غزة و42 في المائة في الضفة الغربية) يوافقون أيضًا على أنه من الضروري للفلسطينيين "قبول مبدأ الدولتين، للشعب الفلسطيني والشعب اليهودي" للمساعدة في إنهاء الاحتلال.
يبدو من خلال استطلاعات الرأي العام أن الأمل الذي ظهر في الفترة التي أعقبت "اتفاقيات أوسلو" يتركز الآن داخل المجتمعات الفلسطينية/ الإسرائيلية العربية التي تعيش في سياق مجتمع إسرائيلي أوسع، وليس بين اليهود الإسرائيليين أو الفلسطينيين الآخرين. كما أن أيًا من الجانبين لا يتوقع وجود ذلك النوع من الإرادة السياسية التي أدت إلى "اتفاقيات أوسلو" في الوقت الحاضر. ومع ذلك، تشير المواقف في القدس الشرقية إلى أن المشاركة خارج السياق العسكري تحدث فرقًا في دعم اللاعنف.
*كاثرين كليفلاند: زميلة أقدم في معهد واشنطن.