سلط الخطاب الأخير الذي ألقاه بنيامين نتنياهو أمام الكونغرس الأميركي الضوء على العلاقات المتوترة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، مع معارضة ديمقراطية كبيرة واحتجاجات عامة تعكس انقسامات أميركية عميقة حول تعامله مع الصراع في غزة.
* * *
كان هذا هو الخطاب الرابع الذي يلقيه بنيامين نتنياهو في الجلسة المشتركة للكونغرس الأميركي، وهو رقم لم يحظ به زعيم أجنبي على الإطلاق -حتى ونستون تشرشل لم يلق سوى ثلاثة خطابات فحسب. وكان أيضاً أهم خطاب في الحياة السياسية لرئيس الوزراء الإسرائيلي.
ألقي الخطاب وسط مشاهد غير عادية، إذ أطلقت الشرطة الغاز المسيل للدموع على الآلاف الذين تظاهروا في الخارج ضد الحرب في غزة. وداخل مبنى "الكابيتول" كانت الانقسامات في السياسة الأميركية حول نتنياهو جلية، حيث قاطع نصف أعضاء الحزب الديمقراطي -الحزب الداعم تقليديا لإسرائيل- في مجلسي الشيوخ والنواب الخطاب.
كما ظهرت أيضاً الانقسامات في المجتمع الإسرائيلي. فعندما تحدث نتنياهو عن أنه "لن يهدأ له البال" حتى يعاد آخر الرهائن المحتجزين لدى "حماس"، وقف معظم أعضاء الكونغرس وصفقوا له، ولكن كان من بين الحاضرين بعض أفراد عائلات الرهائن الذين ظلوا جالسين، وبدت على وجوه كثير منهم الكآبة، وكأنهم غير مقتنعين بكلامه.
وقال رونين نيوترا، والد إحدى الرهائن، واسمه عومير: "هناك نوع من التناقض. إن رئيس الوزراء هو الوحيد الذي يملك مفاتيح التوصل إلى اتفاق، وهناك شعور عام بأنه داخل في تكتيكات المماطلة، وهذا يكلف حياة الرهائن. المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تقول إن جميع الأهداف قد تحققت وحان الوقت للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، ومع ذلك هو لا يقبل بالاتفاق".
في خطابه، شكر نتنياهو كلاً من الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء، معرباً عن تقديره لـ"دعم جو بايدن الصادق لإسرائيل بعد الهجوم الوحشي" الذي شنته حماس، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي تجاهل، مراراً وتكراراً، مناشدات الرئيس الأميركي بشأن الصراع في غزة، ذاهباً في توتر العلاقات إلى الحد الذي جعل الولايات المتحدة توقف تسليم بعض القنابل الكبيرة في محاولة لمنع قتل وتشويه مزيد من المدنيين الفلسطينيين.
كانت نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب السابقة التي تتمتع بنفوذ كبير في الحزب الديمقراطي من بين أولئك الذين فضلوا البقاء بعيداً عن نشاط نتنياهو. وقد وصفت خطابه في وقت لاحق بأنه "أسوأ عرض لأي شخصية أجنبية وجهت إليها الدعوة وتشرفت بمخاطبة كونغرس الولايات المتحدة". وقالت: "لقد أمضى الكثيرون منا ممن يحبون إسرائيل وقتاً اليوم في الاستماع إلى مواطنين إسرائيليين عانت عائلاتهم في أعقاب الهجوم الإرهابي وعمليات الخطف التي نفذتها حماس في السابع من تشرين الأول (أكتوبر). وتطالب هذه العائلات باتفاق لوقف إطلاق نار يعيد الرهائن إلى ديارهم -ونأمل أن يقضي رئيس الوزراء وقته في تحقيق هذا الهدف".
وسعى نتنياهو إلى التقليل من شأن الأعداد المتزايدة للمتظاهرين بوصفهم بأنهم "قبضوا من إيران"، وقال إنهم اختاروا "الوقوف مع الشر".
إن الغضب مما يحدث في غزة؛ حيث وصل عدد القتلى إلى 39 ألفاً وفقاً لوزارة الصحة الرسمية، لا ينحصر بين أوساط الجالية المسلمة في أميركا، بل يتعداها أيضاً إلى قطاع كبير من الناخبين الشباب الذين يشعرون بأن إدارة بايدن لم تفعل ما يكفي للحد من التجاوزات الإسرائيلية. وهذه مشكلة ستواجهها كامالا هاريس خلال الحملة الانتخابية.
كانت الأسئلة الأولى التي واجهتها المتحدثة الإعلامية كارين جان بيير في المؤتمر الصحفي في البيت الأبيض هي حول التظاهرات. وقالت إن بايدن وإدارته "يحترمون حق جميع الأميركيين في الاحتجاج السلمي"، مضيفة: "نحن نتفهم أن هذه لحظة مؤلمة لكثير من المجتمعات".
وألقى بايدن خطاباً آخر في واشنطن مؤخرًا، أعلن فيه عن مغادرته الوشيكة لمنصبه. وقد أشار إلى صور بعض أسلافه -توماس جيفرسون وجورج واشنطن وأبراهام لينكولن وفرانكلين روزفلت- قائلاً: "أنا أمجد هذا المنصب، لكنني أحب بلدي أكثر. لقد كان شرف حياتي أن أخدم رئيساً لكم، ولكن في الدفاع عن الديمقراطية، التي هي على المحك، أعتقد أن هذا المنصب أهم من أي لقب".
كان أمامنا رجل يتنحى طواعية عن أقوى منصب في العالم، ويفعل ذلك بكرامة وكياسة كبيرتين -في وداع مؤثر ذكّر فيه الأميركيين بنقاط القوة التي تربط الأمة. كما كان هناك أيضاً تحذير مما قد ينتظرنا في المستقبل: عودة دونالد ترمب؛ الرئيس السابق الذي رفض قبول الهزيمة ودعم محاولة انقلاب عنيفة هدفت إلى قلب نتيجة الانتخابات، وشخص قد يجد نفسه مرة أخرى في البيت الأبيض في غضون ستة أشهر إذا لم يتم إيقافه. ولدى كتابة هذه السطور، كان نتنياهو في طريقه إلى مارالاغو، وقد يشعر بأن فرصه في البقاء ستتحسن كثيراً من خلال تأمين دعم ترمب، لكن ما حدث في واشنطن أظهر مدى الضرر الذي ألحقته أفعاله في غزة بعلاقة إسرائيل بالولايات المتحدة -وهي أهم علاقة، تاريخياً، وسيكون من الصعب إصلاحها طالما بقي في منصبه.
*كيم سنغوبتا: مراسل شؤون الدفاع والأمن. غطى الكثير من الصراعات في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك الحرب في أفغانستان والعراق وسورية وليبيا والبلقان وأوكرانيا وجورجيا وكوسوفو ومالي والسودان والصومال وكشمير وإيرلندا الشمالية والحرب بين إسرائيل وغزة، فضلاً عن العديد من القضايا الدبلوماسية في المملكة المتحدة وخارجها.