حرب أوكرانيا: عالم جديد متعدد الأقطاب آخذ في الظهور‏

حرب أوكرانيا
حرب أوكرانيا

‏تشارلز بينافورتي‏ - (مودِرن دبلوماسي) 3/6/2023


يشكل غزو روسيا لأوكرانيا في شباط (فبراير) 2022 بلا شك أحد أكبر الصراعات الجيوسياسية في القرن الحادي والعشرين حتى الآن. وما كان يمكن أن يكون قضية إقليمية في تحليلنا، تحول إلى حدث عالمي له تداعيات اقتصادية وجيوسياسية ستستمر لعقود قادمة.

اضافة اعلان

 

ويشكل التحليل غير النقدي للموضوع العقبة الرئيسية أمام تحقيق فهم جيوسياسي حقيقي للعملية الجارية. وهدفنا هنا هو عرض بعض الاعتبارات لسد هذه الثغرات.‏


على مدى العقود الماضية، تجاهلت واشنطن أو بروكسل بلا توقف مطالب روسيا بشأن أمنها الجيوسياسي. بل العكس؛ بذل الأوروبيون والأميركيون الشماليون قصارى جهدهم كل هذه السنين لتوسيع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي إلى أوروبا الشرقية، على الرغم من أن موسكو أعربت باستمرار عن عدم رضاها عن هذا التقدم.‏


‏في واقع الأمر، كانت روسيا تمثل دائمًا "مصدر قلق جيوسياسي" لواشنطن بسبب قدرتها العسكرية والتكنولوجية الموروثة من الاتحاد السوفياتي. ولم توجد روسيا "المثالية" بالنسبة للغرب إلا تحت قيادة بوريس يلتسين (1991-1999) عندما انتقل البلد إلى اعتناق الرأسمالية في عملية مفاجئة ودراماتيكية، حيث مر بواحدة من أشد أزماته الاقتصادية والاجتماعية على الإطلاق.‏

 

‏مستقبل أوكرانيا: السلام من خلال الحرب

 

على هذه الخلفية، أدى تحرك كييف نحو الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي إلى تسريع تصميم موسكو على تأمين - أو على الأقل القيام بمحاولة منسقة لتأمين- الفصل الذي لم ينته من القصة بعد نهاية الاتحاد السوفياتي: أمنها الجيوسياسي، وكذلك مواجهة استخدام واشنطن لأوكرانيا كقاعدة عسكرية مستقبلية لحلف "الناتو" والتي تشكل مصدر قلق كبير لروسيا.

 

وشكل الغزو الروسي الثاني لأوكرانيا في شباط (فبراير) 2022 هذه المرحلة الثانية، وفق تصورنا.‏


لكنّ لدى الغرب، من منظوره الخاص، وجهة نظر مختلفة. في الأساس، يشكل الحفاظ على حلف شمال الأطلسي الذي تم إنشاؤه في الحرب الباردة لمواجهة تهديد لم يعد موجودًا في سيناريو ما بعد الحرب الباردة جهدًا لا معنى له.

 

لكنه يصبح منطقيًا عندما نفكر في مليارات الدولارات من مبيعات الأسلحة والمواد الحربية التي تنتجها الولايات المتحدة إلى حد كبير لشركائها الأوروبيين، والعمولات التي تبلغ عدة ملايين المتضمنة في العملية ويجنيها الوسطاء. من الضروري إبقاء أوروبا تحت مظلة المجال السياسي والعسكري لواشنطن.

 

وعلى الجانب الاقتصادي، اتبع توسع الاتحاد الأوروبي إلى أوروبا الشرقية نفس المنطق: "من خلال زيادة عدد الدول الأعضاء، فإن الهدف هو معالجة التحديات التي يواجهها اتحاد اقتصادي إشكالي كان محلاً للتساؤلات والشكوك الداخلية التي بلغت ذروتها بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في العام 2020.‏


‏على النقيض من حملة القرم التي شنتها موسكو في العام 2014، عندما تحقق النصر الروسي بسلاسة وسرعة نسبيًا، يمكن اعتبار غزو العام 2022 بشكل أساسي كارثيًا، على أقل تقدير. وقد لفتت أخطاء موسكو العديدة في تقييم العواقب قصيرة وطويلة الأجل لاستراتيجية الإخضاع التي اعتمدتها في أوكرانيا الانتباه.

 

أدى ظهور صور عدد لا يحصى من الكيلومترات المغطاة بقوافل بالشاحنات والمعدات العسكرية على طول الطرق، والتقدم الأولي نحو كييف وأجزاء أخرى مختلفة من البلاد، تلاه انسحاب بعد أشهر، إلى كشف خطأ الحسابات العسكرية والعواقب غير المتوقعة التي تلت ذلك.

 

حدث هذا على الرغم من تفوق روسيا العسكري الذي لا يرقى إليه الشك. لم يتم إجراء الحسابات بشكل جيد، مما أدى إلى عواقب كبيرة غير متوقعة، على الرغم من الهيمنة العسكرية الروسية التي لا تُنازع.‏


‏في المنطقة الدبلوماسية الغربية، خرج الوضع تمامًا عن سيطرة موسكو بينما نجم لدى الولايات المتحدة تصور بأنها يمكن أن تستفيد من هذه اللحظة لإضعاف قيادة فلاديمير بوتين، وإجراء تحديث للناتو الذي أصبح وجوده موضع انتقاد، وتسهيل "تغيير نظام" محتمل في موسكو من خلال الخنق الاقتصادي.

 

لكن واشنطن وحلفاءها أخطأوا أيضًا في التقدير. لقد قللوا كثيرًا من شأن الموقف المحايد للصين والعديد من الدول الأخرى مثل الهند والبرازيل، بالإضافة إلى العديد من البلدان في القارة الأفريقية، على سبيل المثال.

 

والأسوأ: أن الحرب وفرت أيضًا بداية لتسريع إزالة الدولار من الاقتصاد العالمي مع فرض العقوبات الاقتصادية ضد الروس، وتوحيد أهداف العديد من البلدان التي شككت مسبقًا في تفوق الدولار كعملة المعاملات التجارية المهيمنة. ومن المؤكد أن إحباط هذا التفوق قد يستغرق عقودًا، ولكن يبدو أن هذا يحدث بالفعل.‏


نكرر أن الصراع الروسي الأوكراني الحالي ما كان يمكن أن يكتسب الأبعاد الدولية التي صنعها عمل محور واشنطن - بروكسل. لقد أثرت أفعالهما بشكل مباشر على أوروبا، التي تتحمل وطأة العواقب بينما تستفيد الولايات المتحدة اقتصاديًا من العقوبات المفروضة على روسيا ويعاني الأوروبيون بقدر ما تعاني موسكو من آثارها.‏


‏في المجال العسكري، تمكنت أوكرانيا من تحمل مصاعب الحرب فقط بسبب الدعم الكامل الذي قدمه لها حلف شمال الأطلسي. وحتى مع نشر وسائل الإعلام الغربية تقارير عن البراعة العسكرية للجنود الأوكرانيين، فإنه من دون هذا الدعم، ربما كانت الحرب قد انتهت مسبقًا.

 

ومن ناحية أخرى، على الرغم من الأخطاء العسكرية الأولية، يبدو أن موسكو فضلت استراتيجية تهدف إلى استنزاف عدوها، حتى مع العلم أن الوقت سيساعد كييف بطريقة ما على تلقي المزيد من الأسلحة من التحالف العسكري الغربي وتأخير استكمال روسيا تحقيق خططها.‏


من المتوقع أن يؤدي هذا الصدام بين الناتو وروسيا إلى إعادة ترتيب دائمة لديناميات القوة للقوى الجيوسياسية في القرن الحادي والعشرين. ويجري وضع اللمسات الأخيرة على نهاية ما يسمى بـ"القرن الأميركي" من خلال صعود قوى جديدة ومستقبلية مثل الصين، التي يكتسب دورها العالمي القوة.

 

ويوضح أداء بكين في الصراع الروسي الأوكراني أن عملها يسترشد بمشاريع طويلة الأجل: التعاون في إضعاف قوة أميركا الشمالية لتحديد "عقاب" أعدائها من خلال الوسائل الاقتصادية، وتعزيز مجموعة (بريكس) كـ"مؤثر عالمي"، وإضعاف دور الدولار كعملة دولية، ودعم طيف متعدد الأقطاب كأساس للنظام الدولي في القرن الحالي.‏
‏‏
‏*د. تشارلز بينافورتي Charles Pennaforte: مدير مختبر الجغرافيا السياسية والعلاقات الدولية والحركات المناهضة للنظام LAbgrima في جامعة UFPEL في البرازيل.


*نشر هذا المقال تحت عنوان: Ukraine war: A new multipolar world is emerging

 

اقرأ المزيد في ترجمات