مقولة "ضيق لو أنه فرج"، التي يصف فيها كثيرون فصل الشتاء؛ جاءت لهذا العام مطابقة لواقع الحال الذي يعيشه سكان قطاع غزة، وسط حرب إسرائيلية دامية طالت الإنسان والشجر والحجر والبنية التحتية. ووجد سكان القطاع في الشتاء "ماءً حلوا للشرب"، ولكنه تسلل إلى خيامهم المنصوبة مع برد شديد وصل إلى "عظام الأطفال المرتجفين".
يعيش الأهالي في غزة في ظروف صعبة للغاية، حيث أنهم يفتقرون إلى أبسط مقومات الحياة، بما في ذلك المأوى والمياه والغذاء والرعاية الصحية اللازمة. "كل الناس تستنى الشتاء بحرارة وحب واشتياق إلا نحن الفلسطينيين في غزة، وفي هذا الزمن قد نتمنى ألا تمطر علينا الآن لأننا نعيش في الخيام والبؤس والتشرد"؛ تلك الصورة التي يشرحها أحد النازحين من شمال غزة إلى جنوبها، بعد أن هطلت الأمطار عليها خلال الأيام الماضية.
وقال الرجل الغزي، وهو أب يقف أطفاله حوله على مدخل إحدى الخيم الصغيرة، إنه يؤوي عائلته في هذه الخيمة، ولكن داهمتهم تلك الأمطار وعلى الرغم من انتظارها، إلا أنها كانت سبباً في تدمير محتويات الخيمة المتواضعة التي يستخدمونها منذ نزوحهم.
حالة من التناقض كذلك يعيشها النازحون في غزة، ما بين الفرح بهطل الأمطار وإمكانية الحصول على مياه صالحة للشرب، كما يقول أحد الأطفال، وبين خوف وهلع الأهالي على أطفالهم من أن يطالهم المرض والبرد والرعشة التي تتداخل مع رعشة الخوف من القصف وصوت المدافع ومناظر الموت المرعبة.
وفي مقطع مصور لأحد الشباب في غزة قام بمشاركته عبر حسابه على الإنستغرام، يقول فيه "كنت أستمتع منذ بدايات تساقط الأمطار، أنتعش في الصباح وأذهب للجلوس على شاطئ غزة، أشرب الشاي الساخن ومن ثم أتوجه إلى عملي".
ولكن الآن يبين ذات الشاب أنه فقد عمله، فقد شغفه، وفقد الرغبة في المتعة بالشتاء، ليس وحده وإنما جميع سكان غزة، الذين باتوا الآن تحت وطأة الحرب والقصف والأمطار التي لا تحميهم الخيام من برودتها، وخاصة الأطفال الذين خرجوا من بيوتهم دون أي احتياطات من الملابس والأغطية، ويقف الأهل حائرين وعاجزين ينظرون إليهم.
في حين بثت إحدى القنوات مقطعاً لأحد الأطفال وهو يضحك فرحاً لهطل الأمطار، ويمسك "دلواً"، يعبئ به الماء المتساقط من أحد مزاريب المياه، علّه يجمع كميات من مياه الأمطار، ويعود بها إلى أهله كنوع من الغنيمة التي فاز بها من "سقيا الله"، وأن الفرج جاء بعد أن باتوا يشربون من مياه لا تصلح للشرب.
وفي مقطع آخر مثير "للحزن والضحك" في ذات الوقت، كما وصفه رواد مواقع التواصل، يظهر شاب يحمل فرشاة أسنانه تحت هطل الأمطار محاولاً البحث عن طريقة لتنظيف أسنانه، بعد أن ضاقت به السُبل لوجود مياه نقية لذلك، فيما تعمد آخر إحضار عبوة "شامبو"، والاستحمام البسيط تحت المياه التي جاءت لـ "تغسل روحه من الوجع ولو لساعات قليلة".
حالة من الرصد الكبير تقوم به مختلف المؤسسات الإنسانية، والإعلامية كذلك، للتحدث عن تبعات فصل الشتاء، والذي لم يبدأ فعلياً، وما يزال فصل الخريف في منتصفه، خاصة بوجود مئات الآلاف بدون مأوى مناسب، أو يعيشون داخل خيم لا تقي ولا تسمن من جوع، يعتليها بعض من أغطية البلاستيك التي قد تتطاير مع أول هبوبٍ للرياح خلال الفترات القادمة.
وعدا عن الخيم غير الكافية، تعتبر التربة الطينية في قطاع غزة، سبباً آخر للمعاناة، إذ ما لبث "الطين" أن يملأ الخيم والشوارع ومحيط المباني التي تتواجد فيها خيم النازحين، ويؤدي إلى وصول المياه إلى "الفراش والغطاء وأرضية الخيمة"، الأمر الذي يزيد الوضع تعقيداً ويلغي تلك الفرحة المشروعة بالشتاء وأمطار الخير.
محمود البربار، أحد الناشطين الإعلاميين في قطاع غزة، كتب يقول "أمطرت السماء في غزة والناس في هذه الخيام لا يسترها من الشتاء إلا النايلون وبعض الأغطية الخفيفة.. حسبنا الله ونعم الوكيل"، في الوقت الذي تحدث به أحدهم عن أن هذه الخيام أنشئت بجهود شبابية تطوعية في منطقة خانيونس جنوب قطاع غزة، ما يعني عدم توفر الإمكانيات لآلاف العائلات لحماية نفسها وأطفالها من مياه الأمطار وبرد الشتاء.
وفي إحدى المقابلات الصحفية، قالت المتحدثة باسم برنامج الأغذية العالمي في فلسطين عليا زكي، إن سكان غزة سيكونون أكثر عرضة لانتشار الأمراض على نطاق أوسع، أيضا هم لا يتناولون ما يكفي من الطعام والتغذية أساساً، ولكن ما يزيد من صعوبة الوضع هو "ضعف جهازهم المناعي مع قلة الغذاء والتحديات التي يواجهونها الآن، ولا يملكون الضروريات الأساسية التي تحميهم أو تقيهم من خطر الأمراض خاصة مع اقتراب فصل الشتاء والأمطار الغزيرة التي نشهدها الآن".
وفي مدارس الأونروا للاجئين التي ضمن مئات الآلاف من النازحين، نسبة عالية منهم من الأطفال، لم يأمنوا من هطل الأمطار الذي وصل لكل ما يملكونه من ملابس وفراش، ولا شيء يقيهم من برد الشتاء، كونهم خرجوا من بيوتهم وسط رعب وخوف من القصف، من دون أن يكونوا على دراية بما ينتظرهم من آلام في غياهب الظلام والشتاء والصمت.
في هذا الوقت كانت مديرة العلاقات العامة في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة (أونروا) جولييت توما، قد تحدثت عن أن الوكالة تركز على تلبية احتياجات السكان في الوقت الحالي، ولكنها بينت أن هناك صعوبة بالغة والوضع على الأرض بائس جداً، وأنه بمجرد هطل كمية صغيرة من الأمطار قد يتسبب في إغراق شوارع غزة لعدم قدرة نظام الصرف الصحي على سحب المياه.
وأظهرت صور تم بثها من خلال العديد من القنوات ومنصات التواصل، قيام عدد من سكان غزة بالبحث عن البدائل للتدفئة خلال الأيام القادمة التي تنتظرهم، وهم يعون تماماً أن الطريق ما يزال أمامهم طويلا، وأن فصل الشتاء لهذا العام لن يكون مصاحباً لفنجان قهوة أو "شاي غزاوي" ساخن على الساحل أو مع الرفاق، ولن يجد فيه أحدهم لحظة مرافقة للموسيقا الهادئة التي قد يقطع هدوءها قصف المدافع "ورائحة الموت".
اقرأ أيضاً:
هطول الأمطار يفاقم معاناة النازحين في غزة.. "غياب تام لوسائل التدفئة" (فيديو)