رشا سلامة*
بعد مضيّ سبعة عشر عاماً، على ذلك العرض السينمائي في مجمع السيف التجاري في البحرين، بوسعي القول جازمة إن واحدة من النقاط الفاصلة في حياتي كانت فيلم “ميونيخ”. أي أني حين خرجت من صالة العرض لم أكن أنا نفسي من دخلت بمحض الصدفة.
في نهار ذلك اليوم، وبرفقة والدي، وصلنا شبّاك التذاكر قبل بدء العرض الأول تماماً. طالعنا ملصقات الأفلام المعروضة على عجالة، فوقعت عين والدي على “ميونيخ”، لم يكن ثمة وقت لنسأل أو ندقق، قال لي “هذه المدينة الألمانية ساحرة، فلندخل الفيلم”. لم يكن في تلك الصالة سوى بضعة مشاهدين، أذكر منهم أجانب، وعربيّين أو ثلاثة خرجوا بمجرد اتضاح ثيمة العرض.
في الدقائق الأولى من الفيلم، ظهرَ الفلسطينيون في ميونيخ، يتسلّلون خلسة إلى غرفة الفريق الذي يمثل كيان الاحتلال الإسرائيلي في الأولمبياد. كانت مطالبهم أمام العالم أن يتم تحرير أسرى فلسطينيين في سجون الاحتلال، لكن الكيان الذي احتلّ الأرض ولم يكتفِ بتشريد أهلها، انتقمَ بأن طاردَ ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية في عواصم عربية وعالمية عدة فاغتالهم؛ بذريعة ضلوعهم في التحضير لعملية ميونيخ، رغم عدم ثبوت ذلك حتى اليوم، وباعتراف الكيان نفسه.
حاول والدي، الأكاديمي الفلسطيني الذي شاهدَ النكسة بأم عينيه وعاش تبعات النكبة، أن ينأى بي طوال أعوام اغتراب طويلة عن الألم. كنت أعرف تماماً أني فلسطينية من أبو ديس، الرابضة على بُعد ثلاثة كيلومترات من الحرم القدسي، وكنت أعرف أن شعبي ذاق الويلات، وكنت قد شاهدت قبل ذلك الفيلم بخمسة أعوام فصلاً من فصول الملحمة الفلسطينية إبان الانتفاضة الثانية، لكن والدي آثر ألاّ يغمسني في مأساوية الحكاية. بيد أنه، من دون أن يعلم، أدخلني معه صالة عرض “ميونيخ”، فتغيّرت اهتماماتي بالكامل عقب ذلك.
قابلت معظم ذوي الشخصيات الفلسطينية التي جرى اغتيالها، وسمعت الحكاية منهم ووثقتها صحافياً، بقدر المستطاع. وأوغلت في البحث عن شخصيات من الثورة الفلسطينية وساعدتني في ذلك الراحلة الخالدة تيريز هلسة. أعددت عقب هذا ملفات كثيرة عن النكبة والنكسة وحوارات مع سياسيين وفنانين ومثقفين فلسطينيين. حدثَ هذا الإصرار كله عقب فيلم “ميونيخ”، الذي أخرجني بثقل ما في قلبي لا أعلم إن كانت الكتابة قد خففته قليلاً أم فاقمته.
في غمرة هذا الانغماس بالحكاية الفلسطينية، لم يخبرني أحد أن ثمة مصطلح في الصحافة يُطلَق عليه “الأمن النفسي للصحافي”. لكني أحاول الآن تعليمه لطلبتي والإصرار على أن يمارسوه قولاً وفعلاً ونمط حياة. وهو أن يصنع الصحافي حاجزاً غير مرئي يحول دون وصول المأساة التي يكتب عنها إلى قلبه ونفسه، ويكون هذا من خلال أساليب عدة مثل:
تدريب النفس على عدم التأثر سريعاً، خلق مسافة فاصلة بين الصحافي وبين الضحايا، وعدم إنشاء علاقات إنسانية معهم بعد انتهاء العمل الصحافي، وعدم قطع وعود لهم بالمساعدة، وعدم تبادل أرقام الهواتف معهم. أي أن تؤدي عملك كما لو كنت طبيباً يجري الجراحة من دون أن يوغل كثيراً في معرفة أحزان مريضه أو متاعبه الحياتية، ومن دون أن يصنع صلة اجتماعية معه خارج نطاق العلاج والتداوي، ومن دون قطع وعود له بحل مشاكله كافة بدءاً من شرايين القلب وليس انتهاءً بفشل زواج ابنة المريض الصغرى. لربما تبدو هذه النصائح جامدة قليلاً؛ لكنها ضرورية لديمومة العمل الصحافي ولسلامة الصحافي في المقام الأول.
أسوق لطلبتي مثالاً دائماً عن المرة الأولى التي تنبهت فيها إلى حدوث مشكلة وجدانية ما، ومنذ ذلك الحين تعرفت على مصطلح الأمن النفسي للصحافي.
كان ذلك في العام 2008. أي بعد مشاهدة فيلم ميونيخ بثلاثة أعوام وبدء البحث والكتابة والتنقيب هنا وهناك على كل ما تقع عليه اليد في الشأن الفلسطيني. كنت آنذاك في جريدة الغد، وبمناسبة ستينية النكبة أعددت حلقات مع الناجين، استمرت على مدى شهرين، وكانت الحلقة الأكثر إيلاماً مع ناجين من مذبحة دير ياسين، وقد تم نشرها في ذكرى النكبة الذي يصادف الخامس عشر من أيار. كنت على مدار شهرين أتشرّب، بشكل شبه يومي، كل ما يقوله الضحايا والناجون من قرى فلسطينية عدة، وكنت أحاور من بقي من رجال الجهاد المقدس آنذاك وعلى رأسهم الراحل بهجت أبو غربية، وكنت أمضي ساعات طويلة بينهم، بيد أني لم أتنبه أني تعبت وجدانياً إلا في يوم ذكرى النكبة، حين نُشِرت حلقة دير ياسين، وانفجرت يومها في بكاء طويل لا أنساه، كما لو أن فلسطين قد سقطت للتوّ.
لا أعرف إلى أي مدى بوسع الفلسطيني أن يصنع أمناً نفسياً، سواءً كان يعمل في الصحافة أم غير ذلك، أمام المأساة التي لا تنتهي فصولها. ويحدث أن يُملي الأستاذ على طلبته ما لا يقدر هو نفسه على فعله، لكن نزعة تشبه الأمومة تظهر في محاولة حماية الأصغر عمراً من الأخطاء التي وقعَ فيها المرء نفسه. طلبتي على قدر من الدهاء، وقد لمحت ذلك في أعينهم حين كنت أنعى الصحافية شيرين أبو عاقلة صبيحة اغتيالها وبكيت وأنا أتحدث عنها. شعرت بهم يسألون: “شو بالنسبة للأمن النفسي للصحافي؟”.. لكني يا أحبتي لا أعرف بماذا أجيب.
*صحافية وأستاذة جامعية في الإعلام
اضافة اعلان