وفي العام 2022 كان الألماس السلعة الإسرائيلية الأكثر استيرادا والأكثر تصديرا، فما قصّة هذه العلاقة؟ وهل نجح طوفان الأقصى في التأثير على هذا القطاع الذي حافظ على قوّته واستقراره لعقود ونجا من تبعات جائحة كوفيد 19 وآثار الحرب الروسية الأوكرانيّة في تقطع سلاسل الإمداد واضطراب السوق العالمي؟
تعود جذور علاقة اليهودي الأوروبي (الصهيوني الإسرائيلي لاحقا) بالألماس إلى القرون الوسطى، ولم تكن علاقة اختيارية، بل أُجبر عليها نتيجة حظره من العمل في مختلف المهن والحرف والأعمال، وهو حظر لم يشمل قطاع الألماس.
ومن خلال هذه العلاقة، نجح يهود أوروبا في مراكمة الثروات وتضخيم مركزهم المالي حينها، وزاد نشاطهم في الألماس بعد انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897، وساهمت تجارته بشكل رئيسي في تمويل المنظمة الصهيونية ومخططاتها وأنشطتها في فلسطين.
ونتيجة لحملات ضغط استمرت سنوات نجح اليهود عام 1936 في إقناع سلطات الانتداب البريطاني بفلسطين في رفع كافة القيود والجمارك عن الألماس، مما مهّد الطريق أمام ازدهار هذا القطاع على أرض فلسطين، فبات أحد الأعمدة الرئيسية لقيام دولة الاحتلال عام 1948 وقوّتها الاقتصادية لاحقا.
ودأبت الصهيونية منذ تأسيسها على استخدام سياسات العصا والجزرة لدفع اليهود إلى الهجرة والاستيطان في فلسطين، وفي كثير من الأحيان كانت النازية عصًا توظفها الصهيونية وتدعمها لأجل ذلك، وفي بعض الأحيان كانت هذه العصا مرصّعة بالألماس.
ففي الحرب العالمية الثانية اعتمد التصنيع العسكري في ألمانيا النازية بشكل رئيسي على الألماس الذي يوفّر حوافّ حادة وصلبة لازمة لتصنيع الأسلحة المتطورة ومحركات الطائرات والطوربيدات والدبابات والرادارات والإلكترونيات والمدافع، وكان الحفاظ على إمداد الألماس من أهم أهداف أدولف هتلر اللوجيستية.
وساهمت الصهيونية من خلال كبرى شركات الألماس الاحتكارية في الحفاظ على إمداده لألمانيا.
واستمرت العلاقة المركّبة والمثيرة للجدل بين شركة دي بيرز الاحتكارية وإسرائيل إلى اللحظة الحالية، إذ تشتري دي بيرز من شركات إسرائيلية الخدمات والاستشارات الأمنية لتأمين مناجم الألماس التابعة لها وخاصة في جنوب أفريقيا وبوتسوانا.
ولا تقتصر علاقة إسرائيل بالألماس الأفريقي على تقديم الخدمات الأمنية لشركة دي بيرز، فمنذ اكتشاف مناجم الألماس الأفريقية دأبت شركات الألماس الإسرائيلية على تعزيز احتكاراتها وهيمنتها عليها، ويهمين أباطرة الألماس الإسرائيليون على المناجم في الكونغو والكاميرون وسيراليون وأنغولا وليبيريا وساحل العاج وغينيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وأفريقيا الوسطى وتنزانيا وجنوب السودان.
وشغّلت الشركات الإسرائيلية العمالة الأفريقية في ظروف قريبة من السخرة والعبودية، وانتهكت القوانين الدولية والإنسانية، واستخدمت سياسة الألماس مقابل السلاح في علاقتها مع الأنظمة الفاسدة والعصابات المسلحة الأفريقية، لهذا لا تعكس المؤشرات التجارية والاقتصادية الكميّة حقيقة وحجم تجارة الألماس الإسرائيلية.
ولأجل استدامة الطلب الأفريقي على السلاح، سعت الشركات الصهيونية إلى تأجيج الصراعات والاقتتالات الداخلية وافتعال الحروب الأهلية مثل الحرب الأهلية في الكونغو والحرب الأهلية في سيراليون، ودعمت أنظمة الحكم الأفريقية الفاسدة المعادية لشعوبها، وموّلت نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
والألماس أوّل سلعة تم تبادلها بين الهند وإسرائيل، وتُشكّل تجارته الآن نصف حجم التجارة البينية، ويمثّل حجر الأساس لتطوّر العلاقة بين البلدين التي بدأت بالعداء حين كانت الهند بزعامة حزب المؤتمر معادية للصهيونية وداعمة لحركات التحرر ولقضية فلسطينيين، وانتهت بتورط الهند في الإبادة الجماعية في قطاع غزة.
وتضم بورصة الألماس الإسرائيلية في رامات غان نحو 30 شركة هندية، ويعيش في محيطها حوالي 80 شخصا يمثلون معظم العائلات الهندية التي تعمل بالألماس، ومنحتهم دولة الاحتلال مكانة خاصّة. فمنذ عام 2018 حصلوا على إقامات دائمة لهم ولعائلاتهم، وتضم رامات غان فرعا لبنك الدولة الهندي "إس بي آي"، وهو البنك الأجنبي الوحيد الموجود فيها.
وشهدت العلاقة بين البلدين التي بدأت بالألماس، تطورًا مستمرا خاصة بعد سيطرة حزب "بهاراتيا جاناتا" اليميني الفاشي ذي التوجهات الاقتصادية الليبرالية المتطرفة، لتشمل علاقات اقتصادية وتجارية ودبلوماسية وأمنية وعسكرية وشراكات على مستوى الابتكار وريادة الأعمال.
وبعد "طوفان الاقصى" واجه سوق الالماس في كيان الاحتلال خلال العامين الماضيين صدمتين، الأولى في فترة جائحة كوفيد 19 وأثرها في تعطل التجارة الدولية والانخفاض الحاد في الطلب، والثانية بسبب الحرب الروسية الأوكرانية وما سببته من انقطاع سلاسل الإمداد بما الألماس.
ومن الاسباب عزلة الكيان المحتل دوليا وجماهيريا، بسبب جرائمه في غزة، ويمكن تتبع وقياس ذلك على المستوى الرسمي من مواقف وتصريحات الدول والمؤسسات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة ونتائج التصويت على قرار العضوية الدائمة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة، وعلى المستوى الجماهيري من حجم واتساع الاحتجاجات والمظاهرات الداعمة للقضية الفلسطينية واتساع رقعة الانتفاضة الطلابية.
وايضا تضررت صورة الكيان المحتل أمام العالم وظهرت على حقيقتها بوصفها دولة فشلت في التحدي العسكري والأمني والاستخباراتي أمام طوفان الأقصى والجبهات المساندة، وبوصفها دولة غير عقلانية وفاقدة للتوازن الإستراتيجي والخطوات المحسوبة، ودولة غير أخلاقية وعنصرية وتمارس الإبادة الجماعية، مما زاد من عزلتها الدولية وأثر سلبًا في قدرتها على جذب الاستثمارات الخارجية وبناء الشراكات التجارية، هذا إن لم تتحوّل إلى بيئة اقتصادية طاردة للاستثمار.
ومن الاسباب كذلك الأزمة الاقتصادية التي ضربت كافة القطاعات في الكيان نتيجة التكاليف المباشرة وغير المباشرة للحرب، وآثارها في مختلف المؤشرات الاقتصادية، وانعكاس ذلك على انخفاض التصنيف الائتماني العالمي للاحتلال.
كما أثر طوفان الأقصى في تعطيل مخططات جيوإستراتيجية واسعة مثل مشروع الممر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي.
ولن تنتهي الآثار الاقتصادية للأسباب المذكورة في المنظور القريب، بل تتخذ طبيعة إستراتيجية بعيدة المدى، الأمر الذي يضع العديد من المخاطر العالية أمام قطاع الألماس في الكيان المحتل، الذي يعتمد في معظمه على العلاقة مع الهند والدول الأفريقية المحتضنة لمناجم الألماس، كما تأثرت تجارة الكيان بالالماس بعد منع شركاته من العمل في بعض الدول الأفريقية بعد القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضده في محكمة العدل الدولية، وبعد قرار 5 دول أفريقية في الثامن من الشهر الحالي وقف شحن البضائع إلى الاحتلال، في سياق صحوة أفريقية متصاعدة منذ سنين نحو استعادة السيادة على الموارد والتخلّص من التبعية للاستعمار.-(وكالات)