من جانب آخر فإن القرار الأخلاقي (Ethical Decision) يشير الى اتخاذ قرار ما يستند إلى المعايير والقيم الأخلاقية مثل العدل والصدق والنزاهة والاحترام والشفافية والمسؤولية الاجتماعية، من خلال تحليل وتقييم شامل للوضع أو المشكلة بشكل مسبق واختيار القرار الذي يعتبر أكثر أخلاقية ويتماشى مع تلك القيم والمعايير المعمول بها، بمعنى آخر أن لا يتم اتخاذ قرار أخلاقي إلا بعد اعتبار المشاعر والقيم والتأثيرات المحتملة على الأفراد المعنيين والمجتمع برمته، والتفكير في العواقب الأخلاقية لها.
يتعين أن نضع في اعتبارنا هنا أن بعض المتنفذين في المنظمات يعتقدون أن القرار الأخلاقي يكمن في الامتثال الصارم للقوانين واللوائح الداخلية، أو فقط الالتزام بإجراءات التدقيق الداخلي والامتثال، وفي رأيي، فإن هذا الاعتقاد يشكل فهمًا خاطئًا لطبيعة القرار الأخلاقي، فالقرار الأخلاقي يتطلب وجود ممارسة عملية تطبيقية وتوازن بين المصالح والتأثيرات على جميع الأطراف المعنية. إن أهمية القرار الأخلاقي تنبع من دوره في بناء الثقة والسمعة الإيجابية للأفراد والمنظمات والمساهمة في تحقيق التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية.
عندما يحدث تعارض في المصالح، يمكن أن ينجم عنه مجموعة من العيوب والتداعيات السلبية. فعلى سبيل المثال، قد يؤدي ذلك إلى فقدان الثقة في إدارة المنظمات وتشويه صورتها وسمعتها، وذلك نتيجة تأثيره على قراراتها المهنية، وتلك التأثيرات السلبية تؤثر بدورها على المصلحة العامة ومصلحة المنظمات بشكل عام، بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن ينتج عن التعارض في المصالح عواقب قانونية ومالية، والأهم من ذلك، يمكن أن يؤدي التركيز على تحقيق المصالح الشخصية إلى ضياع فرص التنمية والتقدم، فعندما يتم تجاهل فرص التطوير المهني والابتكار واستغلال الإمكانات المتاحة بسبب التركيز على المصالح الشخصية، فإن ذلك يعيق التقدم ويحرم المنظمات من استفادة كاملة من إمكانياتها المتاحة.
وفي هذا السياق يظهر مصطلح آخر يُسمّى الأخلاقيات المهنية ( Professional Ethics)، والتي ينبثق من مجموعة المسؤوليات والتزامات الأخلاقية التي يجب على العاملين تحملها، فعندما يحدث تعارض في المصالح ويكون القرار الأخلاقي متذبذبًا، تساعد الأخلاقيات المهنية في توفير إطار توجيهي للتعامل مع تلك التضاربات وتأثيرات القرارات المختلفة، فهي تحدد قواعد ومبادئ سلوكية لضمان تحقيق المصلحة العامة ومصلحة المنظمة، والحفاظ على النزاهة والثقة في المهنة، بواسطة الالتزام بالأخلاقيات المهنية، كما يمكن للمهنيين أن يتخذوا القرارات الأخلاقية الصحيحة في ظل التحديات التي تنشأ عند تعارض المصالح، وبذلك يضمنون السلوك المهني النزيه والمسؤول.
على سبيل المثال، في مجال ممارسة الطب، يجب على الأطباء العمل بمصلحة المريض وعدم التأثر بالمصالح المالية أو الشخصية التي قد تؤثر على جودة الرعاية الطبية. وفي مجال المحاماة، يجب على المحامي أن لا يتعارض بين مصالح الموكل ومصالح الوكيل أو مصالح أطراف أخرى ذات علاقة بالقضية، بالإضافة إلى ذلك، في مجال التدقيق الداخلي والامتثال، ينبغي على المهنيين الكشف بصراحة وشفافية عن أي تعارض محتمل للمصالح بينهم وبين تطبيق اللوائح الداخلية ومصالح المساهمين، هذا يضمن النزاهة والثقة في المهنة ويحافظ على المسؤولية والموضوعية في العمل المهني.
وهنا علينا التمييز بين ما هو أخلاقي وبين ما هو قانوني، فقد يتفقان مرة، وقد يختلفان مرات عديدة خصوصا عندما يرتبك القرار الأخلاقي ويتيه بينهما!، فعلى الرغم من أنهما مفهومان يستخدمان في تحديد معايير السلوك والتصرفات الصحيحة والخاطئة في المنظمة، إلا أنهما يختلفان في طبيعتهما وطريقة تطبيقهما.
السلوك الأخلاقي مرتبط بشكل مباشر بالقيم والأخلاق الفردية والجماعية، وقدرة الفرد أو الجماعة التمييز بين الصواب والخطأ والعمل وفقا لتلك القيم والمعايير، وأحيانا يعتبر السلوك الأخلاقي غير قانوني، ولكنه يمثل تصرفات قد تكون مقبولة أو غير مقبولة في سياقات مختلفة.
أما السلوك القانوني فيتعلق بالقوانين والأنظمة المنظمة التي تحكم سلوك الأفراد في المنظمات، ويتطلب الامتثال للقوانين واللوائح المعمول بها، وتحمل المسؤولية القانونية عن التصرفات غير المشروعة والمخالفة للقوانين. وبشكل عام، يكون السلوك أخلاقيا عند التصرفات التي يعتبرها الفرد أخلاقية وصحيحة ومتوافقة مع القيم والمعايير، ويكون السلوك قانونيا عند الامتثال للقوانين والتشريعات المحددة من قبل الجهات المعنية.
فالتعسف في استخدام الحق مثلا ربما يمثل سلوكا قانونيا من وجهة نظر القانون عندما يبرر بوجود نص لكنه يعتبر سلوكا غير أخلاقي من وجهة نظر الأخلاق والمعايير عندما يبرر بالإجراءات، وعليه يعتبر مخالفة النص والإجراء سلوكا غير قانوني أو أخلاقي على الإطلاق، فمخالفة النص توجب العقوبة، لكن مخالفة الإجراء توجب إصلاح الإجراء على الرغم من كونها غير أخلاقية.
وبالعودة إلى تعارض المصالح والربط بين السلوكيات الأخلاقية والقانونية في الممارسات الإدارية، فانه ومن وجهة نظر كاتب هذا المقال فإن هذا التعارض يتعمق كلما زادت احتمالية تعارض المصالح، وطغى المتنفذ بصلاحياته الموكلة له على مصالح المنظمة والأفراد والمجتمع لتحقيق مصالحه الآنية واللاحقة، وبما يسمى بنظرية الوكالة (Agency Theory).
من الجانب التطبيقي العملي، فالفساد الإداري أو المالي مثلا سلوك غير أخلاقي وانتهاك للمعايير المهنية وهو أيضا مخالف للقانون، ذلك أن كون الفساد شكلا من أشكال سوء استغلال السلطة، ربما يجلب منفعة شخصية على حساب مصلحة المنظمة، ويشمل ذلك الرشوة، والاحتيال، وتزوير الوثائق واستغلال المناصب بأنواعها. ويمكن الحد من الفساد بتعزيز أخلاقيات المهنية منها الشفافية والنزاهة والمسؤولية والمصداقية والعدالة والتعاون على حماية مصالح المنظمة قبل كل شيء، وعدم الاكتفاء بوظائف التدقيق الداخلي أو الخارجي أو وظائف الامتثال داخل المنظمة أو ربطها بالمساهمين أو الملاك مباشرة، ففي الدول التي تحرص على مكافحة الفساد يتم تعيين موظفين مهمتهم الرئيسة التصفير أو (Whistling) عند استشعارهم مؤشرات فساد إداري أو أخلاقي أو تعارض المصالح، أو فقدان القرارات أخلاقيتها في منظماتهم، ويقدم لهم القانون الحماية الكافية لممارسة أعمالهم الاعتيادية دون تهديد.
ففي الأردن تلزم مراقبة الشركات الشركات المساهمة بالالتزام بمعايير الحوكمة، من خلال تشكيل مجالس إدارة مستقلة وتعيين مفوضين ماليين مستقلين للتأكد من توفير بيئة عمل نزيهة ومنصفة، والالتزام بمدونة السلوك.
وأخيرا تشير دراسات عدة أن هناك علاقة إيجابية بين أخلاقيات العمل ومكافحة الفساد المالي والاداري وتغليظ عقوبته، ويمكن تلخيص بعض النتائج الرئيسة لهذه الدراسات للجم الفساد من خلال تعزيز ثقافة النزاهة والشفافية والمساءلة والإفصاح، وتعزيز الوعي الأخلاقي لدى العاملين ودورهم في حماية منظماتهم، والتدريب المستمر للقيادات التنفيذية على مراعاة قراراتهم الأخلاقية، والعاملين بشأن ممارسة أخلاقيات العمل، فكلما توفرت المعرفة والفهم الكافيان بالمخاطر والآثار السلبية للفساد، سيصبحون أكثر استعدادًا للتصرف بشكل أخلاقي والإبلاغ عن الممارسات غير الأخلاقية في منظماتهم.