أيها المغتربون: أطفئوا الشمس وناموا!

مساء "الغروب" أيها المغتربون أعتذر، بداية، عن هذا اللقب الذي أطلقناه عليكم، فقد جعلناكم مرادفا لـ"الغروب"، فهل أسأنا الاختيار، أم كنا نعنيه، قصداً؟

اضافة اعلان

لا يهم، سأحدثكم قبل النوم، عن المرحومة جدتي، التي كانت مولعة، بتربية الدجاج، في بيتها المتواضع.

والحال أن جدتي لم تكن مولعة بالدجاج نفسه، بل ببيضه، بدليل أنها كانت لا تتورع عن ذبح الدجاجة التي تفقد قدرتها على إنتاج البيض. وفي المقابل، كنا نحسد الدجاج البياض لقاء ما يحظى به من صنوف الدلال والتسمين، من قبل جدتي، والتي كانت لها فراستها التي لا تخطئ في معرفة الدجاج البياض قبل شرائه.

لن أطيل عليكم، فقد ظلت جدتي تربي الدجاج، ضمن سياستها المعهودة حيال شروط اقتنائه، حتى حدث الانقلاب المباغت في ثوابتها، حين بدأ جيران جدتي بالتململ والانزعاج من نقنقة الدجاج وصخبه، لا سيما عند الفجر، أما عند "الغروب" فلا بأس، لأن الدجاج ينام باكرا، كما تعلمون.

ولأن جدتي كانت واسعة الحيلة، فقد عقدت تسوية مع أحد الجيران، قوامها إعارة بضع دجاجات إليه، مقابل منحه ثلاثة أرباع ناتج البيض، والباقي لها، ففرح الجار، وقبل الصفقة.

والغريب أن هذه الصفقة فتحت أعين الجيران الباقين على مردودها المجزي، فطلبوا، من جدتي عقد صفقات مماثلة معهم. وفي المحصلة، لم تمض بضع سنين، حتى كانت جدتي قد وزعت رهط دجاجاتها، كله، على الجيران، ولم تعد من مهمة لها غير انتظار مردودها الغني من البيض، بمعنى أنها "ضمّنت" الدجاج مقابل البيض، على حد تعبير المزارعين، فضلا عن أنها كانت تستفيد من لحم الدجاج المعاد من الجيران إذا ثبت عجزه عن إنتاج البيض.

ما أزال أتحدث عن "جدتي" أيها المغتربون.. عن "جدتي" التي تنظر إلى أبنائها كلهم، كمشاريع قابلة "للاغتراب" وإنتاج البيض بالعملة الصعبة، دعكم من أوهام "التسمين" في المراحل الأولى، فالمقصود في النهاية، هو توزيع الدجاج، إلى أقصى "مغارب" الأرض، بحثا عن وظيفة تدر ولو بضعة دولارات إلى "سلّة البيض"- أعني سلة احتياط النقد الأجنبي- في خزينة "جدتي".

والمشكلة أيها المغتربون، أن "سلة" جدتي سرعان ما تفرغ، نتيجة سوء التخطيط على مشاريع فاشلة، بدليل حجم المديونية، وهول أرقام البطالة، وسوء التوزيع، وكلما واتتنا الشجاعة على سؤال جدتي عن "القلاّيات" التي التهمت البيض، اتهمنا بضعف المواطنة، والتشاؤم.

والأهم من ذلك، أيها المغتربون، أنني لا أفهم كيف تكون "جدتي" سعيدة إلى هذا الحد بتغريب أبنائها، لدرجة أنها لا تدخر وسعا في إرسال وزرائها لعقد صفقات تصدير الأبناء، مع كل ما يصاحب ذلك من حملات الترويج والتزكية، للدجاج المسمّن والمتعلم، بدل أن تجد لهم حواضن دافئة في بيتهم الذي تربوا فيه وتعلموا معنى الانتماء، علما أن هذه الحواضن كفيلة بجعلهم أكثر إدرارا للبيض، بل وبوسعهم أن ينتجوا أيضا البيض من فئة "الصفارين" لو كانت السياسات الاقتصادية لجدتي ناجحة، من الأساس... وفي المحصلة لم تكن جدتي تعلم أن شمس الوطن كانت تزداد "غروباً" مع كل مغترب جديد يغادرها.

أما "فائض الدجاج ونقص البيض"، فتلك كارثة لم نعرفها إلا عند "جداتنا" في الوطن العربي، بدليل أن "الجدة" الصينية، مثلا، لم تعرف نظيرا لهذه "الكارثة"، على الرغم من فائضها البشري الهائل.

وأما الحديث عن عودتكم لدى العجز عن إنتاج البيض، فتلك حكاية أخرى، وبوسعكم أن تسألوا نظراء لكم قادهم سوء حظهم العاثر إلى العودة بغتة، إبان حرب الخليج الثانية، واسألوهم كيف كان احتفاؤنا "الحار"، جدا، بهم، فقد أستقبلناهم بمضاعفة أسعار الشقق إلى أرقام فلكية، وبرفع أسعار المواد الغذائية، وبتركهم فرائس لغوائل البطالة والفقر والجحود.. باختصار فقد التهمنا لحمهم بعد أن أكلنا بيضهم، يوم كانوا في ذروة عطائهم.

انتهت "الحدوتة الوطنية" أيها المغتربون، وأرجو أن لا أكون قد أثقلت عليكم بحكاية "جدتي"، خصوصا وأني أعلم أنكم "مغتربون" حتى الإرهاق..

بقي أن أقول أن جلّ ما نخشاه أن تفقد جدتي البيض والدجاج معا، والآن عمتم "غروبا" أيها المغتربون.. أطفئوا الشمس وناموا.

[email protected]