ترى أوساط سياسية وثقافية كردية في العراق أن هناك مفارقة سياسية غريبة في مواقف الدول الإقليمية المجاورة لكردستان العراق إزاء الخلافات الداخلية الحادة التي تعصف بالبرلمان العراقي حول الفقرة 24 من قانون انتخابات مجالس المحافظات. يشار الى ان هذه الفقرة تتعلق بتقاسم السلطات في مجلس محافظة كركوك. لكن الأكراد يعارضونها ويعتبرونها محاولة غير مجدية لقتل المادة 140 من الدستور العراقي الدائم التي تضمن إعادة ضم كركوك النفطية الى إقليم كردستان العراق. أما كتل برلمانية عربية وتركمانية، سنية وشيعية عدة، فإنها ترى في الفقرة إنتصاراً للوطنية العراقية وحلاً واقعياً لمشكلة التنوع السكاني في المدينة المتنازع عليها.
مفاد المفارقة الإقليمية، بحسب تلك الأوساط، أن تركيا التي اشتهرت طوال السنوات الأربع الماضية بتهديداتها واجتياحاتها العسكرية لمناطق حدودية في كردستان العراق، إضافة الى حديثها المتكرر عن ضرورة بقاء كركوك خارج الإقليم الكردي وحماية الأقلية التركمانية فيها، أوقفت، في جولة الخلافات الراهنة، تدخلاتها واستبدلت لهجتها الإنفعالية السابقة بكلام هادىء ومنطقي.
أما إيران التي اشتهرت هي الأخرى بتدخلاتها الأمنية في الشأن الداخلي العراقي خصوصاً عبر قنواته الطائفية، فإنها بدأت بالتدخل السياسي المباشر وممارسة أقصى الضغوط على بعض الكتل البرلمانية العراقية المؤيدة للفقرة 24 من قانون إنتخابات المحافظات وذلك عبر القنوات والنوازع القومية والعرقية في هذه المرة.
الى ذلك، تعتقد الأوساط السياسية والثقافية الكردية التي لم تشأ الحديث باسمائها الصريحة، أن الهدف الواضح لضغوط إيران هو دفع تلك الكتل النيابية الى مواصلة التمسك بالفقرة 24 وعدم الإذعان للإرادة الكردية والدولية والأميركية الداعية الى تغييرها أو تعديلها أو حذفها. يشار الى أن تقارير صحافية تركية عدة كتبت قبل نحو اسبوعين أن أنقرة وطهران تنسقان بشكل خفي لإقناع قوى سياسية في البرلمان العراقي، خصوصاً قوى تركمانية وعربية سنية وشيعية، للوقوف في وجه مطالب الأكراد. لكن الأوساط الكردية نفسها، لفتت الى أنها لم تلمس، على الأقل حتى الآن، أي تدخل تركي مباشر في الخلافات، على عكس حالة التدخلات الآتية من إيران.
في هذا الإطار، تشير الأوساط ذاتها الى أن الهدف الاساس لطهران من تدخلاتها الحالية، لا يماثل في حقيقته أهداف تركيا التي تميزت على الدوام بمحاولاتها القضاء على فكرة تحول كردستان العراق الى قاعدة لدولة كردية مؤثرة في الشرق الأوسط. إنما يتركز هذا الهدف، أساساً على وضع العصي في عجلة السياسة الأميركية في العراق وخلق مشكلات معقدة وشائكة يعصي حلها على الأميركيين. في هذا الخصوص، تعرف طهران أن كركوك تشكل بالنسبة الى الأكراد قلب قضيتهم القومية. وتعرف أن الموقع النفسي والسياسي والاقتصادي لهذه المدينة في الذهنية التاريخية الكردية، لا يدع أمامهم فرصة ولو صغيرة للتخلي عن مطالبتهم بضمها، أو الموافقة على مبدأ شطب أو تعديل المادة 140 من الدستور العراقي الدائم لكون هذه المادة أحد أهم المكاسب الاستراتيجية التي حصلوا عليها في العراق الجديد، والتي بذلوا من أجل الوصول إليها دماء وتضحيات وجهوداً تاريخية طويلة.
ما الحال على هذه الشاكلة؟ تعتقد طهران أن تمسك العرب والتركمان بكركوك وحقولها النفطية، لا يمكن أن يؤدي سوى الى إندلاع صدامات عرقية في المدينة سرعان ما تتحول الى عنف عرقي قابل للامتداد الى مناطق عراقية أخرى. وما يزيد من حاجة إيران الى مثل هذا العنف أن الحكومة العراقية نجحت خلال العام الماضي، وبمساعدة مباشرة من القوات الأميركية، في وضع حد للعنف الطائفي الذي عصف بالعراق مدة عامين، ما دفع بالأميركيين الى التفكير في تقليص عديد قواتهم في العراق والتلويح بانتصار استراتيجية زيادة عديد القوات الأميركية التي أطلقها الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش.
في المنحى ذاته، ترى الأوساط السياسية والثقافية الكردية في أربيل أن واشنطن مارست في بداية الأزمة ضغوطاً على القادة الأكراد بغية تليين مواقفهم وإقناعهم بالقبول بصياغة معدلة للفقرة 24 من قانون إنتخابات مجالس المحافظات. لكن هؤلاء أبدوا شدّة غير معهودة وهددوا بالإنسحاب بشكل كامل من الحكومة والعملية السياسية في العراق في حال استمرار الضغوط عليهم التأكيد للقبول بتعديل لا يتضمن التأكيد على استمرارية العمل بالمادة 140 من الدستور والإبقاء على مجلس المحافظة الحالي لحين الانتخابات المقبلة. يشار الى أن قائمة التآخي الكردية التي تتولى إدارة محافظة كركوك تشغل 26 مقعداً من أصل 42 مقعد. فيما بعد، صاغ المبعوث الدولي في العراق ستيفان دي ميستورا نصاً معدلاً للفقرة 24 تضمن تأجيلاً للانتخابات، نزولاً عند رغبة العرب والتركمان، مع التأكيد على استمرارية المادة 140 نزولاً عند رغبة الأكراد. هنا، عادت الكتل النيابية المؤيدة للقانون مع فقرته 24 بصورته الراهنة، الى رفض الورقة والتشكيك في حيادية المبعوث الدولي والمطالبة بتغييره.
فيما كركوك تعيش أزمتها الحالية، يبدو أن طهران التي تعيش توتراً هائلاً وصراعات شديدة مع الولايات المتحدة، تواصل تدخلاتها في الأزمة على أمل أن تفضي حالة الشد والاحتقان الحاصل في المدن العراقية الى تصعيد المواقف وإعاقة إجراء الانتخابات في كافة المدن العراقية. هذه الحالة، بحسب الأوساط الكردية، يمكن أن تجر الى عودة العنف والتدهور الأمني بسرعة فائقة الى الشارع العراقي. كذلك، يمكن أن تدفع بالانتصارات الأمنية التي حققها العراقيون والأميركيون ضد الإرهاب في الفترة الأخيرة الى مستنقع هزيمة سياسية جديدة قد تكلف الجمهوريين في واشنطن حظهم في البقاء في البيت الأبيض عبر المرشح الرئاسي جون مككين.
لكل هذا، يصح طرح سؤال أساسي مؤداه: هل أن ما يجري في العراق حول موضوع كركوك والمادة 140 والفقرة 24 هو تعبير عن صراع عراقي داخلي؟ أم أنه، بالفعل، صورة أخرى من تدخلات إيران، صورة العنف العرقي في هذه المرة، هدفها كما كان الهدف في العنف الطائفي، تصفية الحسابات مع الأميركيين على الأراضي العراقية وبسفح دماء عراقية بريئة.
* كاتب وسياسي كردي