الفتاة المصريّة التي هي أصلاً من جماعة المعارضة "6 إبريل"، وواصلت احتجاجها مؤخّراً بنشر صورة لنفسها عاريةً تماماً، لم تكن لتدرك سنوات عمرها العشرون أنّ العالم الذي كان يخرج فيه الناس في الغرب عراة للاحتجاج السياسيّ قد ولى بعيداً. وليس في حساباتها ما آل إليه واقع العالم من غَذّ خطىً نحو اليمين العابس المتجهّم، حابساً أكثر الأفكار والأخيلة حريّةً وجموحاً في أرشيف المكتبات وذاكرة التلمّظ على الأيام الخوالي. فجون لينون مؤسّس جماعة البيتلز لم يكن ليتردّد في الستّينات، وبعد التقائه بمن ستصبح رفيقته ثم زوجته، يوكو أونو، أن يظهر معها عارياً على غلاف ألبومهما المشترك "عذراوان" (الذي منع في الولايات المتحدة آنئذٍ)، ويتبع ذلك باحتجاجٍ على حرب فيتنام بالتعري في سرير شهر عسله، في غرفة رئاسية في فندق هيلتون أمستردام.
ولكنّها الستينات التي اندلعت فيها ثورة الطلبة في أوروبا، مع ثورة التحرّر الجنسيّة. الستينات التي هاجمت المعسكر المحافظ أينما كان في الغرب، وفي أهمّ أفكاره عن الأخلاق والجسد والإجهاض والمثليّة. وهي الستينات نفسها التي خرجت فيها نساء أميركا يحرقن حمّالات الأثداء في الشوارع، في إشارة رمزية إلى أن المرأة ليست جسداً فحسب، واحتجاجاً على الثورة الجنسيّة التي لخّصت تحرر المرأة بتحرّر جسدها فحسب. فتلك الستينات الغربيّة انعكست على المجتمع العربيّ بتحرّرٍ عقلانيٍّ شهد خروج المرأة العربيّة من خباء الحريم، ودخولها الكثيف إلى الجامعات، ودفعها أبواب العمل لتنفتح أمام قدراتها. في الستّينات تُرجم كتاب المفكّرة الفرنسيّة سيمون دي بوفوار "الجنس الثاني" الذي يُعتبَر أوّل كتابٍ نوعيٍّ في حركة الوعي النّسويّ، واستُقبِل من أهل الثقافة العرب استقبالاً حسناً، لأن البيئة الثقافيّة آنئذٍ كانت متسامحةً تستوعب الاختلاف بل تحترمه، ولا تحمل ساطوراً لقصّ رقبة من يخرج أو تخرج عن السّرب. في الستينات ظهرت نوال السعداوي بكتاباتها الفكريّة والثوريّة عن المرأة شاقّةً طريقاً وعرةً أمام الكاتبات القادمات والنّسويات الباسلات اللواتي ما يزلن حاملاتٍ المعاول والمجارف لبناء أفكارٍ عادلة وكريمةٍ عن الإنسان بجنسيه.
ولكنّ أيامنا هذه ليست الستينات بتسامحها وتعدُّدها. فنحن الآن وسط معمعة تحرّر من الطّغيان الحاكم، وسط مجتمعاتٍ باتت لا تحتمل التعدُّد ولا تقبل به، مجتمعاتٍ آلت بها خيباتها وانكساراتها وعبوديّتها إلى الاختباء من شمس الفكر الحرّ، في أقبية الاستسلام للغيب. فكان أن حُجِّبت النساء ونُقِّبنَ طوعاً وكراهيةً، واستفحل اللّغط الإفتائي في المرأة وعورتها: أهي في الكفّ أم في الصّوت (وأخيراً في العين) أم في الوجود والظّهور؟ وأخذ موضوع الحجاب حيّزاً كبيراً من الأهميّة الاستراتيجيّة، لنقاء المجتمعات وتطوّرها (!!)، وللحفاظ على الهويّة. وعلى الطرف الآخر من اللعبة، احتشد أبشع وأسوأ ظهورٍ للنساء في فضائيّات الغناء السُّوقيّ، والجسد الفائر بالشهوات وتحقيره العلنيّ، وهو الذي –يا للمفارقة– يجد له من نساء الحجاب والشبابِ المطالبِ به (الحجاب) مفتوناتٍ ومفتونين!!! بين الطّهارة المزيّفة للمجتمعات بعزل المرأة وتلخيصها بالعورة والجسد، وبين امتهانها وهدر كرامتها في التعرّي الفائض، ضاعت الفتاة المصريّة (علياء)، وارتمى في وعيها الصّغير أنّ تعرّيها سيجلب نتيجةً إيجابيّة لثورتها. فالفتاة التي يطالب حُماةُ الأخلاق والدين بإعدامها، ليست سوى نتيجة أخرى لهذه الأزمة الوجوديّة التي غطسَت فيها المجتمعات العربيّة إلى قاعها، من دون أن يجول في خاطر "الرّبيع العربي" الذي يحاول اجتثاث الأنظمة، أنّ الطغيانَ الذي يثور عليه يقابله في المجتمعات طغيان أيدولوجيٌّ وحيد وأوحد تلهث إليه شعوبه، ويحاول القفز إلى الحكم!!!!!
دعونا لا نفقد الأمل......
