رددت الأنباء الواردة من العراق قصصا إخبارية عن قناص ضمن صفوف المقاومة العراقية متخصص باقتناص الجنود والضباط الأميركيين برصاصة واحدة لا يكررها تصيب هدفها في اغلب الأوقات, ولا يترك له أي اثر إلا عبارة " قناص بغداد مر من هنا". ومع استمرار المقاومة وما يرافقها من عمليات عنف غير مبرر, وإرهاب لا يبيحه حق المقاومة أحيانا, مر الدستور العراقي هو الآخر دون أن يترك اثرا حقيقيا يوازي حجم الاهتمام والتصعيد السياسي والإعلامي الذي أثير حوله.
منذ أكثر من عامين بدأت عملية تعبئة واسعة النطاق صوب العملية السياسية في العراق؛ وعلى أهمية هذه العملية أهملت محاور أخرى لا تقل عنها أهمية، وأحياناً تفوقها في تحديد مصير العراق ومستقبله، وركزت جل هذه التعبئة منذ عام ونصف حول موضوع الدستور العراقي، حتى اصبح الناس حول العراق وربما العراقيون أنفسهم يعتقدون بان خلاص العراق ووضع حد للكوارث التي تعصف به مرتبط بحسم موضوع الدستور.
وبعد جدل طويل وتأجيل متعدد وتردد واسع وضع الدستور المقترح على محك الاستفتاء، ومر بعد مماطلة في إعلان النتائج استمرت أكثر من عشرة أيام؛ انشغل العالم خلالها بتقرير المحقق الألماني ميليس وتداعياته المعروفة, المهم أن الدستور مر. وتحمل عبارة تمرير الدستور التي ترددت على السنة سياسيين وإعلاميين كثر دلالات هامة, تشير إلى ماكنة دفع هائلة كانت تقف خلف عملية الاستعجال التي همها الأول والأخير الانتهاء من هذه المرحلة بأي ثمن، ووقفت الولايات المتحدة وبعض الأطراف الإقليمية بكل قوة خلف عملية الاستعجال وعملت على تضخيم النتائج المتوخاة من هذه العملية.
لقد أعادت عبارة ( تمرير الدستور) التي لم تخل منها وثيقة او بيان او خطاب للنخبة السياسية الأميركية حول العراق خلال الشهور الماضية مقولات الخطاب الدعائي الذي روجته الإدارة الأميركية أثناء بناء التحالف الدولي لاحتلال العراق حول أسلحة الدمار الشامل وغيرها، ورسخت حملة التعبئة الواسعة التي أدارت مناقشة وطنية عراقية كبرى ربما لم يشهدها العراق في تاريخه الحديث والمعاصر الأسس الطائفية والمذهبية الذي يطالب الجميع برفضها لان جل الخلاف حول الدستور ليس بكونه كتب تحت الاحتلال، بل بسبب التخوف مما يحملـه من أبعاد طائفيـة وعرقيـة تهدد بتفتيت الدولة العراقية أو بحرب أهلية.
وفي الحقيقيـة ادار الفرقاء حول الدستور حملات استقطاب طائفيـة وعرقيـة واضحة, حيث وظفت الحملة الدعائية الرسميـة (61) صحيفة و(22) محطة إذاعة وست محطات فضائية، وتم عقد (56) مؤتمراً و(267) ندوة وتم توزيع واستلام حوالي (234) ألف استبانة حول الدستور، وبالنتيجة مر الدستور في يوم صيفي هادئ وشارك في الاستفتاء اكبر عدد متوقع، ولم يتغير شيء جوهري في مصادر القلق والكوارث المتتالية التي يواجهها العراق يومياً.
ظهرت اتجاهات تفسيرية متعددة حول سر حرص الولايات المتحدة على تمرير الدستور العراقي بصفة الاستعجال، وفي الظروف العراقية التي يعرفها العالم، الاتجاه التفسيري الأول يرى أن الولايات المتحدة تريد أن تثبت للعالم بعد ما واجهته من انتكاسات في ملف احتلال العراق بان النموذج العراقي هو النموذج المبتغى والمرتجى في الشرق الأوسط, وان الدستور على هذا النحو يمهد للخطوة السياسية القادمة نحو استكمال البناء السياسي للعراق الجديد أي الانتخابات التشريعية التي ستفرز الجمعية الوطنية الدائمة وبدورها ستنتخب هذه الجمعية رئيس الجمهورية وتختار رئيس الحكومة حيث يكون البناء السياسي العراقي قد اكتمل في وقت قياسي. ويذهب هذا الاتجاه إلى أن التطورات التي تقودها الولايات المتحدة في العراق تحطم الأسطورة التي تتردد حول ( أن لا دستور يكتب تحت الاحتلال) والدستور العراقي الذي اقر لا يختلف عن الدساتير الألمانية او اليابانية او الكورية التي كتبت تحت الاحتلال أيضاً وقادت الى حداثـة سياسيـة واقتصاديـة تشهدها هذه الدول اليوم.
الاتجاه الثاني يفسر الاستعجال الأميركي على كتابة الدستور وتمريره بهذه السرعة بمحاولة الولايات المتحدة تفادي أخطاء استراتيجية وسياسية منذ أن أعلنت أنها قوات احتلال وتجاوزت بذلك الأمم المتحدة وأهملت عمليا التحالف الدولي، ومع استمرار تردي الأوضاع في العراق ازدادت حاجتها لتقاسم المجتمع الدولي لبعض الأعباء. فلقد اشترط الأوروبيون من اجل عودة دورهم استمرار العملية السياسية بخطواتها المعروفة وضمن توقيتات محددة سوف تفتح المجال إلى تقاسم أعباء المأزق العراقي، وربما ستفتح المجال أمام مشاركة بعض الدول العربية في دور امني ما.
ويفسر اتجاه ثالث مقولة أن الدستور العراقي كان الشغل الشاغل للرئيس الأميركي وإدارته على مدى أكثر من عام لانه الفرصة الأخيرة لإنقاذ الولايات المتحدة مما تواجه بانتصار يحققه قبل أن يخرج مرغماً من المستنقع العراقي الذي تورط فيه, على اعتبار أن الولايات المتحدة تريد من تمرير الدستور بداية لإطلاق استراتيجية الخروج من العراق والتي تسعى بكل قواها أن تكون استراتيجية غير مذلة.
المهم أن الدستور مر بهدوء، ومن المتوقع أن يشهد العراق بعد الانتخابات القادمة واقعا جديدا هو الذي يفسر بموضوعية أكثر وضوحا غموض الانشغال الأميركي في تمرير الدستور بهذه السرعة. بيد ان المفاتيح الحقيقية لفك أسرار هذا الغموض تبدأ من الاعتراف بحقيقة أن العراق خاضع لثلاث قوى رئيسية هي الولايات المتحدة وإيران وبريطانيا, التقت مصالح هذه القوى في مراحل متعددة وحافظت على الانسجام في أداء الأدوار وتقاسم المصالح, في حين بدأت هذه الأدوار تشهد تفسخا واضحا وانتهى الدور المرسوم لبعضها في الاستراتيجية الأميركية التي تخطط إلى تحويل احتلال العراق إلى وجود عسكري سلمي دائم في المنطقة.