من المهم للدبلوماسية العربية أن تقوم بعملية تقويم للأسس والاعتبارات التي حكمت تعاطيها مع العراق بعد سقوط نظام صدام حسين
منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003 وحتى الآن، لم تتشكل رؤية عربية استراتيجية حول التعاطي مع العراق الجديد، الذي ودّع نظاما ديكتاتوريا بوليسيا، وحلّ بدلا منه نظام تحكمه الأغلبية الشيعية، وتقوم فيه العملية السياسية على أساس الانتخابات والمحاصصة الطائفية والتعددية السياسية وصراعات النفوذ بين المكونات الأساسية للشعب العراقي (شيعة، سنة، أكراد). ومآلات المخاض العراقي التي لم تتشكل بعد في سياقاتها النهائية والواضحة تُلقي بثقلها على المستوى الخارجي. فما يزال هناك ضعف ثقة بين العراق ومعظم جيرانه؛ بخاصة وبين العراق والدول العربية بشكل عام. ولعلّ تصريحات رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ( صحيفة الشرق الأوسط 23/9/2009) التي حذّر فيها من الاجتماعات العربية التي تسعى إلى نقل قضية بلاده من الأمم المتحدة إلى الجامعة العربية بهدف "تضييع حقوق العراقيين" في مسألة تفجيرات بغداد الدامية في التاسع عشر من آب (أغسطس) الماضي، هي ( أي التصريحات) شاهد جديد وتعبير واضح عن هشاشة الأواصر التي تحكم العلاقة العربية ـ العراقية منذ الغزو الأميركي للعراق. ويُخيّل للمرء وكأن هذه العلاقات لم تغادر مربعاتها الأولى، إذ ما يزال المسؤولون العراقيون يتحدثون عن غياب أو ضعف ومحدودية الحضور الدبلوماسي العربي في العراق الجديد، ويشكون من مشاكل مع دول الجوار في مسألة الأمن وحفظ الحدود وعدم إسقاط الديون عن العراق التي راكمها النظام السابق على العراقيين. ويشير العراقيون إلى عدم اعتراف عربي بالمخاض "الديمقراطي" الذي يعيشه العراق منذ ست سنوات مقابل ديكتاتورية صدام وديكتاتوريات أخرى في المنطقة العربية تتوجس، كما يكرر العراقيون، من العملية الديمقراطية العراقية، ويضيفون بأن العرب ما يزالون غير متقبلين أن يحكم الشيعة بلدا عربيا.
وفي الجانب العربي، يتواصل أيضا "سجال غياب الثقة"، حيث "تتمتع" حكومة المالكي بعلاقات باردة أو غير مشجعة مع سورية ( خاصة بعد تفجيرات الأربعاء الدامي في آب (أغسطس) وبعد حديث عراقي عن استمرار الدعم السوري لأعمال العنف في العراق...) والسعودية (نتذكر مثلا، تصريحات المالكي بأنه لا جدوى من أي مبادرات دبلوماسية تجاه السعودية لأنها استهلكت ولا فائدة من تكرارها لأنها فُهمت على أنها علامة ضعف...) والأردن ( زيارة رئيس الوزراء نادر الذهبي قبل أسابيع إلى بغداد قوبلت بفتور عراقي وكان الأردن يؤمِل أنْ أن تسفر عن إفراج عن المعتقلين الأردنيين في العراق وهو ما لم يحدث...) والكويت ( الحديث الكويتي عن تعديات عراقية على الحدود الكويتية/ أزمة التعويضات والديون الكويتية على العراق...). وهناك أيضا عُقدة الحضور والتمثيل السياسي السني في التركيبة السياسية العراقية وفي مؤسسات الدولة والأجهزة الحكومية والأمنية، وهناك عقدة العلاقة التي تربط الحكومة العراقية بطهران بشكل يتجاوز مجرد علاقة قوية بين بلدين جارين.
وقد اختصر رئيس الوزراء العراقي الأسبق إياد علاوي (في حديث إلى "الحياة" في 19/9/2009) هذا المشهد بقوله :" ليس لدى المالكي صيغة واقعية للتعامل مع دول الجوار، فالكل بنظره بات متهما". ودعا علاوي إلى " مؤتمر إقليمي بعد الانتخابات التشريعية في العراق في كانون الثاني (يناير) المقبل للحديث المباشر بين العراق وجيرانه وحل الخلافات".
هذه الأجواء المشحونة وغير السوية في العلاقات تستدعي تفكيرا جادّا في سبل تجاوزها. وربما يكون من المهم للدبلوماسية العربية أن تقوم بعملية تقويم للأسس والاعتبارات التي حكمت تعاطيها مع العراق بعد سقوط نظام صدام حسين. هذه المراجعة الضرورية ينبغي لها أن تتساءل عما إذا كانت تلك الاعتبارات أثبتت نجاعة في حفظ المصالح العربية وتخفيض عوامل تهديدها. ومن الأسئلة الكبيرة التي يستدعي طرحها ومناقشتها في إطار تلك المراجعة: هل السعي إلى تكثيف الحضورين العربي الدبلوماسي والاقتصادي وغيرهما في العراق قبل حل ّ الخلافات بين العراق وجيرانه وتحديد هوية الحكومة العراقية وأولوياتها وتحالفاتها الخارجية مكافأة سياسية بلا ثمن على مشاكل وهواجس لم تُزلْ ولم تسوَّ، أم أنها الوسيلة الأقصر لحل مثل تلك المشاكل، باعتبار لغة المصالح أمضى أثرا وأشد تأثيرا من لغة الأيديولوجيا والاعتبارات المذهبية؟.