على الرغم من إدراكه المسبق لحقيقة أن هذه المرحلة مختلفة عن سابقتها، لجهة المفاهيم والقيم والمبادئ، فإن صاحب هذه السطور يزعم أنه إن لم يكن أول من رأى الفريق عبدالفتاح السيسي على أنه امتداد من نوع ما لشخصية الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، فإنه كان من بين أوائل من قرأوا المشهد المصري الطالع من موجة الثورة المصرية الثانية على هذا النحو الذي أغوى كثيرين غيره من أصحاب الهوى الناصري بعقد مثل هذه المقارنة، والتنقيب على أوجه الشبه المشتركة بين قائد الجيش المصري الحالي وبين رئيس مجلس قيادة الثورة في تموز (يوليو) 1952.
كانت هذه القراءة المتعجلة في حينه، نتيجة مشاهدة فيض من الصور التي حملها مصريون عاديون في الميادين المصرية قبل أكثر من ستة أشهر، ونقلتها شبكات التلفزيون، وهي تجمع في إطار واحد وجه الزعيم القومي الخالد، ووجه رجل مصر القوي القادم لتوه من ذات الجيش الذي بنى الدولة المصرية الحديثة، وظل بمثابة معمل بشري ينتج القادة والرؤساء، خصوصا خلال العقود الستة الماضية.
في أول الأمر، بدت الصورة المشتركة لعبدالناصر والسيسي تعبيراً عن حنين شعبي جارف إلى عهد مصر الباذخ بمظاهر العزة والكرامة والريادة، وذلك بعد نحو أربعين سنة كالحة من الانكفاء وتهميش الذات والتهافت. إلا أنه مع تعاظم التحديات الداخلية، وزيادة المحاولات المحمومة لدفع مصر نحو الفوضى والاحتراب الداخلي، بدت هذه الصورة المشتركة تعبيراً عن حاجة موضوعية إلى زعيم تكمن فيه صلابة روح جمال عبدالناصر، وتتجلى في خطابه سمات الإقدام والرجولة المفقودة.
وهكذا، ومع تفاقم المصاعب الأمنية والاقتصادية، وتعمق حالة القلق العام إزاء مستقبل مصري ينذر بالانهيار والتمزق، تحول عبدالفتاح السيسي إلى رجل تنعقد عليه آمال ملايين الناس في عبور عنق زجاجة المرحلة الانتقالية بشجاعة واقتدار وإخلاص، عز لديهم رؤية مثيل له في ملامح أي قائد حزبي أو شخصية مدنية، أو قيادة "ثورية" طامحة إلى تولي دفة السفينة الكبيرة المبحرة وسط أنواء عاتية.
ولعل المفارقة الفارقة أنه بعد أن بالغ السيسي كثيرا في التودد إلى الشارع المصري، وعوّل عليه بشدة، ودعاه مراراً للنزول إلى الميادين من أجل تكوين رافعة شعبية ترد عنه شبهة القيام بانقلاب عسكري، وجد وزير الدفاع نفسه رهينة لموجة من العواطف الشعبية الجارفة، تعقد عليه الرجاء في مواجهة الإرهاب المتنامي، وتلح عليه للإمساك بعصا القيادة؛ فوجد نفسه أسيرا لدى من أسر شغاف قلوبهم، أو قل كالصياد الذي اصطادته السنارة، ولم يعد قادراً على الإفلات منها حتى وإن رغب في ذلك.
على أي حال، فقد كانت كل المؤشرات المتعاقبة من أرض الكنانة، طوال الأشهر القليلة الماضية، تقول بصورة واضحة لا لبس فيها، إن الرجل الذي رأت فيه الأغلبية من المصريين نسخة ليست طبق الأصل لعبدالناصر، يسير بخطى وئيدة نحو الزعامة المطلقة، وأنه بات في طور الرئيس المقبل من دون منافس يعتد به، وذلك بعد أن تم حسم أولويات الانتخابات المقبلة لصالح تقديم الرئاسية منها على البرلمانية، وبعد بدء العد العكسي لعملية خوض معركة أكثر ما يكتنفها من نواقص ومثالب، افتقارها حقا لمرشح آخر يفي بشروط اللعبة الديمقراطية.
وأود أن اختتم هذه العجالة، بما كنت قد اختتمت بها مطالعة نشرتها في هذه الصفحة آخر تموز (يوليو) الماضي، قلت فيها إن زمن معركة التحرر الوطني والحرب الباردة التي أتى على جناحها جمال عبدالناصر، تختلف عن زمن العولمة وثورة المعرفة التي تواكب زمن السيسي، وإن الصورة التي تحاكي الأصل ليست هي الأصل بالضرورة الموضوعية، وإن التاريخ بمكره البالغ لا يكرر نفسه، الأمر الذي يجعل هذا الجنرال أقل كاريزمية من ذلك البكباشي، لكنه سيجعل منه أكثر ديمقراطية. فشتان ما بين ذاكرة ذاك "الصعيدي" المسكونة بحصار الفلوجة والعدوان الثلاثي وغيرهما، وذاكرة هذا "المنوفي" الذي جازف بمغامرة وحيدة أهّلته للإمساك بلحظة تاريخية فريدة.
issa.alshuibi@alghad.jo
issa_alshuibi@