صادفت هذه الأيام الذكرى الرابعة والتّسعون لميلاد الرئيس جمال عبدالناصر. وهي ذكرى تجعلنا نقف على حافتها لتأمّل تلك التجربة العظيمة التي وسمت الرّبع الثّالث من القرن العشرين العربيّ بميسمِها، مُحدثة دويّاً عالمياً ما يزال صداه يتدحرج في حياتنا حتى الآن!
وإذ كان عبدالنّاصر شخصيّة استثنائيّة في تاريخنا العربيّ المعاصر، بل شخصيّة عالميّة وضعت مصر العربيّة على الخريطة السياسيّة للكرة الأرضيّة، وأناطت بها دور البادئ والفاعل في مواجهة (الإمبرياليّة) الأميركيّة و(أذناب الاستعمار) –كما كانت لغة تلك الأيام-، فإنّه هو الذي خلق وتبنّى قاموساً فريداً للسياسة لم يكن ليُكتب له الرّواج والانتشار لولا خطبه الرنّانة التي كان الشّعب العربيّ من الماء إلى الماء ينتظرها ويُصغي إليها، ويتفاعل مع ما تشحن في النّفوس وما تؤجّج من مشاعر عالية الآمال. وإذ بنى عبدالنّاصر لنفسه ولشعبه وللعرب أجمعين حلماً وحدويّاً قائماً على قوميّة واشتراكيّة عربيّتين، فإنّه بذلك كان قد طوّع فلسفتين هما على طرفيْ نقيض مثلما هو البوْن بين هتلر وستالين. ولكنّه نجح في إيجاد مناخٍ قسْريّ للمصريّ البسيط لكي يقطف شيئاً من فكرة عبدالناصر عن الاشتراكيّة، ومن نزوعه العروبيّ، متحلّلاً في الوقت نفسه من أيّ تبعيّةٍ لأي دولةٍ عظمى، بل أقام علاقاتٍ نديّةً مع الاتّحاد السوفياتي والهند ودول (عدم الانحياز) التي كانت تمثّل آنئذٍ قوّة مناوئة و(كسّارة أمواجٍ) للرأسماليّة الغربيّة والولايات المتّحدة ونزوعهما السّافر نحو إيجاد (عملاء) لهما – بالمعنى الاقتصادي لا الأيدولوجي.
ثمَّ إنّ عبدالناصر كان قد بنى مصر وقادها إلى أن تصنعَ سيّارةً وتبني السّدّ العالي. ورفع الضّيم عن بلاده أولاً بتأميم القناة، وعن الفلاح والفقير فاستنّ تأميماً للأراضي لإعادة توزيعها سمّاه "الإصلاح الزّراعيّ"، وأنهى طبقة الأرستقراط في انحيازٍ كاملٍ إلى البروليتاريا وقضايا التقدّم الاجتماعي؛ فجعل المرأة هدفاً أساسيّاً لهذا التقدّم، وعيّن أوّل وزيرةٍ في مصر وفي الوطن العربيّ (حكمت أبو زيد). وتبعاً، فقد انسجم عبدالنّاصر انسجاماً كاملاً مع سياساته الدّاخليّة والخارجيّة: رعايته وتمويله الانقلابات العسكريّة في البلدان العربيّة، بل والحروب (اليمن)، ونظافة جيبه ويده، مبعداً أسرته عن الأضواء وصنع القرار، غير عفيف اللسان مع خصومه السياسيّين. ولم يُعرف عنه من أمراض رؤساء العالم الثالث والأول حبّه للنّساء والتورّط في اعتلاقهنّ (على عكسِ صفيّه عبدالحكيم عامر). فقد كان عقله كلّه كاملاً في مشروعه السياسيّ الذي انتهى به إلى دكتاتور (حكم عشرين عاماً انتهت بوفاته أو مقتله بالسّمّ!!) لا يسمح بانتقادٍ أو اختلافٍ أو معارضةٍ!! ولذا لقي الشيوعيّون والإخوان المسلمون منه، على حدّ سواء، عَنَتاً شديداً تصنّفه كأكبر دكتاتور عربيّ آنئذٍ. فقد قيل عن سجونٍ وقتلٍ واغتيالاتٍ وإذابةٍ في أسيدٍ و(زوّارِ ليل!!). ولذا فقد تغوّلت مخابراته تغوّلاً يشبه ما كان الأمر عليه في الأنظمة الشموليّة، وانتهى أمر مصر إلى (القطط السّمان) داخليّاً، وهزيمة 1967 خارجياً.
كان عبدالناصر إذن قائداً عربيّاً عروبيّاً كارزماتياً له حلمُه ومشروعه، ولكنّ قبضته الحديديّة على شعبه، وعداواته الكثيرة في الجوار العربيّ والمحيط الدّوليّ، وانفراده بالقرار السياسيّ وبصياغة الحلم العربيّ، وتشبّثه بالسّلطةِ كمنقذٍ أعظم، لم تمكّن التّاريخ من أن يدع مصر العظيمة في رعاية مشروعه الذي انقضّ عليه خَلَفُه وربيبه السّادات وأوسَعَه محواً بعد أن مزّقه تمزيقاً، وجعل مآل مصر إلى انفتاحٍ سياسيّ واقتصاديّ لم يجن منه شعبها سوى رفع خطّ الفقر فيه وتجويعه، مع منهجة للاستبداد. ترى، هل لو أنّ عبدالناصر الوطنيّ العظيم قد اختار الديمقراطيّة منهجاً للحكم، أكنّا سنتجرّع هوان (النّكسة) وتبعاتها؟ وهل كانت ستؤول الأمور بعده، وبسرعةٍ ضوئيّة، إلى كامب ديفيد وما تلاها من انهيارات؟
أتعجّب من أين سيأتي الأمل!!!
