أكتب هذا المقال من العاصمة المكسيكية، مكسيكو سيتي، وفيها تشرفت باستلام جائزة "اليونسكو" للمدن التعلمية، التي منحتها المنظمة الدولية لمدينتنا عمان تقديراً لمشروعها في تكريس عمان مدينة تعلمية، والذي يجري تنفيذه بمثابرة وتصميم واجتهاد منذ نحو خمس سنوات، بالشراكة ما بين مديرية الثقافة في أمانة عمان الكبرى، والملتقى التربوي العربي، وهو هيئة ثقافية أردنية أهلية، إلى جانب طيف واسع من المؤسسات الأهلية الثقافية الفاعلة، حقاً لا شكلاً، في عمان، كما المئات من الشباب والشابات المتطوعين الرائعين.
الشراكة بين القطاعين العام والأهلي، انطلاقاً من رؤية مشتركة، وتقاسم وظيفي للأدوار، هي كلمة السر في هذا النجاح الذي حققته عمان. أما الرؤية المشتركة، فهي ما تسميه مديرية الثقافة في الأمانة "الثقافة من أجل التنمية"، ويسميه الملتقى التربوي العربي "العمل على جعل الثقافة والفنون أساساً للتعلم والمعرفة". وخلال أعمال المؤتمر الثاني للمدن التعلمية، الذي جرى ضمنه تسليم الجائزة لعمان وإحدى عشرة مدينة أخرى من مختلف قارات العالم، منها بكين ودبلن ومكسيكو سيتي وميلتون الأسترالية، من بين نحو ألف مدينة في العالم صنفتها اليونسكو "مدناً تعلمية"، اتفقت والسيدة سيرين حليلة، رئيسة الملتقى التربوي العربي، أن هذه "اللغة المشتركة" التي نتحدث بها منذ سنوات، آخذة بالصعود في العالم العربي، حيث تجري الدعوة لأن تحوز مهمة التنمية دوراً مركزياً في العمل الثقافي، بخاصة حين استمعنا للمتحدث البحريني طارق العليمي، الذي قال الكلام نفسه، بعد أن قدمت السيدة حليلة عرضاً مفيداً وعميقاً عن تجربة عمان كمدينة تعلمية، مستعملة اللغة نفسها بالضرورة.
والحال أن العمل الثقافي في عمان اليوم يمضي على ركيزتين: التنمية الثقافية، والشراكة بين المؤسسات الرسمية والأهلية العاملة في الثقافة. هذا هو "جديد" عمان في سنواتها الأخيرة، الذي استحقت عليه هذه الجائزة الدولية. لقد نقلت عمان الثقافة من حيز النخبة، إلى حيز الناس على اتساعه وشموليته. عمان جعلت الثقافة لكل الناس، لا للمثقفين وحسب، وتعمل بجد لجعلها أساساً لتطور المعرفة والسلوك في المدينة، لا للاستمتاع فقط، فاستحقت احتفاء "اليونسكو" بها.
المدينة التعلمية، هي تلك التي تنشر المعرفة بين سكانها ضمن قنوات غير نظامية، جنباً إلى جنب مع تلك النظامية المتمثلة في المدارس والجامعات والمؤسسات الأكاديمية. إنها، بكلمات أخرى، تلك المدن التي تتيح الثقافة لسكانها. وبهذا المعنى، فإن أمين عمان، عقل بلتاجي، شخصياً، يتابع تحويل الساحات والحدائق العامة، فضاءات ثقافية لأهل المدينة. كما تنفذ عمان منذ سنوات مشروعاً تعلمياً طموحاً موجهاً للفتيان والفتيات، يستعمل الورش الثقافية لنشر القيم السلوكية الإيجابية، مثل احترام القانون واحترام الحق في الاختلاف وتعزيز قيم المواطنة، بالتعاون مع مديريات التربية والتعليم، وطيف واسع من المؤسسات الوطنية والمتخصصين، تديره من الأمانة المهندسة قمر النابلسي ولاورا الحديد، مع مشرفات الحدائق الثقافية في مختلف مناطق المدينة، والمعنى أن في عمان اليوم ورشة تعلمية مفتوحة لكل الأعمار.
في اليوم الأخير من أعمال المؤتمر، قال لي السيد راؤول كوتيرا، المشرف على المشاريع في "معهد اليونسكو للتعلم مدى الحياة"، إن المعهد يود أن يعطي تجربة عمان اهتماماً خاصاً ودعما كبيراً، ويود متابعة تطوير تجربتها. واتفقنا على أن تكون تجربة عمان أنموذجاً للمدن التعلمية في العالم العربي، آخذين بالاعتبار أن لكل منطقة في العالم خصوصيتها، بخاصة بعد اعتماد منظمة المدن العربية عمان مركزاً لمجموعة العمل الثقافي للمدن العربية. يتقدم هذا المشروع إذن، ويتكامل دور عمان الثقافي تجاه مجتمعها، مع دورها تجاه أمتها.
أود أن أشكر كل من ساهم في نجاح عمان الثقافي هذا، فرداً فرداً، وهم مئات من المتطوعين، وناشطي الهيئات الثقافية الأهلية، وأعضاء الملتقى التربوي العربي، وعلى وجه الخصوص الشابة الطموحة ميس العرقسوسي، التي أطلقت بمشاركتها في مؤتمر نظمته ثقافية الأمانة العام 2011 هذه الشراكة المثمرة. وكذلك طبعاً موظفو مديرية الثقافة في أمانة عمان الكبرى، وعلى رأسهم السيدة النشيطة جنان عادل، ورئيسات أقسام البرامج الثقافية: رشا الشواربة وأمينة دغمش وبثينة جوينات، اللواتي شاركن في هذا النشاط بفاعلية، ومشرفات مكتبات الأمانة، التي تحولت مراكز تعلمية صغيرة في مختلف أحياء المدينة، ومدير المكتبات السيد حاتم هملان، والمديرة النشيطة في عدد من المواقع الثقافية المهندسة غيداء الحديد. أود أن أشكرهم لأن لكل واحد منهم فضلا كبيرا: لقد عملتم بصمت، فأنجزتم، وكم يشرفني أن أقول كل هذا باسمكم وبصوتكم.