تجد في الكتاب الذي أعده وكتبه عبدالرحيم الشيخ، بعنوان "سيرة جابي برامكي.. وتجربته في جامعة بيرزيت"، خليطاً من سيرة جامعة وطنية، وحركة مقاومة، ورجل عاش بروح حرة تحت الاحتلال.
عاش والده أنضوني برامكي في القدس؛ بكنائسها ومساجدها ومبانيها. وقرر دراسة الهندسة المعمارية، فيمم وجهه شطر أثينا. عاد ليبني، ومما بناه بيت أسرته. وهناك، كان يحادث زوجته إفلين برامكي باليونانية، عندما لم يكن يريد للأطفال معرفة عَمّا يتحدثان، وزادت شهرته العام 1927 عندما صمدت المباني التي صممها في وجه الزلزال. لكن الاحتلال استولى على تلك المباني، ومنها بيته الشخصي، عقب العام 1948.
درس جابي، المولود العام 1929، في مدرسة بيرزيت الداخلية، قرب رام الله. وبعد إتمامه بكالوريوس وماجستير الكيمياء في بيروت، بالتزامن مع نكبة فلسطين، وحصوله على الدكتوراة من كندا، عاد لمدرسته التي تدرجت إلى كلية متوسطة ثم جامعة في السبعينيات، وأصبح رئيسها بالوكالة بعد إبعاد الرئيس الأصيل حنا ناصر العام 1974. ولا توجد صورة أكثر تعبيراً في الكتاب، من صورة جابي وهو في الرابعة والستين؛ صلبٌ، شامخ القامة، نافر العروق، يقف كتفاً بكتف بجانب حنا، الضاحك جداً، بنشوة الانتصار والعودة من الإبعاد، وجموع الطلبة تحيطهما، العام 1993.
أكثر ما يثير الانتباه في الكتاب هي مواجهة برامكي للاحتلال بالإصرار على الحياة الطبيعية الحرة "المستهزئة" بمنطق الاحتلال. عندما استُدعي مرة لمكتب الحاكم العسكري، وأُبلغ أنّه تحت الإقامة الجبرية، قلق جابي، فهذا سيحد من قدرته على خدمة الجامعة. ولكنه بشكل خاص قال: لا يمكن الالتزام بالقرار، فهناك الجوقة الموسيقية (جوقة القدس التي كان مؤسسا فيها منذ العام 1955) تجري تدريباتها في القدس ولا يستطيع التخلف عنها. ذهل العقيد الصهيوني شموليك الذي لم يفهم الموقف. ربما لو كان شموليك يحس بعزف الفرقة لموسيقى موتسارت "قداس التتويج"، وأنشودة بيتهوفن "المسيح على جبل الزيتون"، وأعمال هايدن "قداس في زمن الحرب"، وفيفالدي "غلوريا"، لفهم.
في حادثة أخرى؛ ما إن بدأ جابي بإلقاء كلمة في الجامعة، حتى علّق طالبان خلفه العلم الفلسطيني، في زمن كان الاحتلال يستشيط غضباً منه، ويلاحق رافعيه وقد يقتلهم. واحتج الحاكم العسكري في تحقيق لاحق مع جابي على بقاء العَلَم كما أظهرته صور المناسبة. فكان رد برامكي أنّ الحاكم العسكري يبالغ برد فعله على رفع العلم، وكأنه يقول: هذا الوضع العادي، ما المشكلة؟
كانت حوادث العلم متكررة؛ ففي مرة رفعه الطلبة على كافتيريا الجامعة. شاهده جابي، وأعجبه المنظر ومضى إلى مكتبه. لكن "الحاكم" اتصل غاضباً، وطلب انزاله. فرد جابي إنّ هذا ليس سهلا. وواظب الحاكم على الاتصال كل نصف ساعة. ولما صار واضحاً أن الثمن سيكون اقتحام الجامعة، تداولت أسرة الجامعة الأمر، واجتمع الطلبة والأساتذة والعاملون، وأدوا تحية العلم وغنوا له "بلادي.. بلادي"، وأنزلوه. فغضب "الحاكم" واستدعاه طالباً عدم تكرار ذلك، فرد رده المعتاد، كأنها قاعدة علمية، "لا يمكن ضمان ذلك".
قال له طالب يساري مرة: "إنه توزيع للعمل: نحن الطلبة نبقي العلم الفلسطيني خفاقاً أعلى ما يمكن، وأنتم الإدارة تبقون المستوى التعليمي أعلى ما يمكن". وجابي سعيد بالعبارة، مع أنّ أشهر صوره وهو يقود مظاهرات الطلبة ضد الاحتلال.
في الجامعة شيء يسمى "روح بيرزيت"؛ عبارة تقال كل يوم تقريباً هناك، خصوصاً أثناء خلافات الأساتذة. وتتضمن هذه الروح عناصر: أولها، تغليب المصلحة العامة؛ وثانيها، ليبرالية تتقبل التعدد والاختلاف بالرأي؛ وثالثها، شعار الجامعة الذي يوضحه برامكي وهو "تحرّ السعادة في إتقان العمل".
يتحدث كتاب الشيخ عن وقفية جابي وهيفاء برامكي للبحث العلمي، ولجنة المقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل ومقاومة التطبيع في بيرزيت، التي تجمع أساتذة. وقد تأسست عقب رحيل جابي العام 2012، استكمالا لما بدأه، كأنّه يقول إنّ سيرة جابي لم تنته بوفاته، ووجوده لم ينقطع، و"سيكون يوماً ما يريد".
ما تعطيك إياه بيرزيت: أن تعيش الحياة بأقصى معاني الحياة؛ جامعة الشهداء، شرف الطيبي، أول شهداء الجامعة الـ26، وفتحي الشقاقي مؤسس "الجهاد الإسلامي"، ويحيى عياش مهندس "حماس"، والأسرى، الفتحاوي القائد مروان برغوثي، والقسّامي ابراهيم حامد، وكثيرون لا يقلون رمزية. كل هذا وأنت تتحرى سعادة إتقان العمل.