صديق روحي

1) كنتُ صبيّا عندما جلس يُسمعني أغنية "من سجن عكا"، ويشرح لي قصة الشهداء الثلاثة جمجوم، وحجازي، والزير. وكنتُ شابا يافعا عندما أسرّ لي بواحدة من تجاربه في المعتقلات الصهيونية، يوم خرج بعد أشهر من التعذيب بدون أن يعترف بشيء. قال: "كانوا يريدون تفاصيل العلاقة مع "أبو جهاد"، وأنا أنكرت رؤيته". وروى لي ما حدث منتصف الثمانينيات عندما سافر إلى عمّان في دورة نقابية. يقول: لم أكن أعرف أني سألقاه، وضعوني في غرفة فندق، وبوغتُّ به يدخل ويسلّم علي، ويجلس إليّ، يحدثني ساعات عن المقاومة بالحجر، وعن النضال الشعبي المدني.اضافة اعلان
2) في رواية الياس خوري، "باب الشمس"، يمضي الممرض خليل (في التسعينيات) ساعاتٍ طوال يجالس المقاتل العتيق،يونس، الذاهب في غيبوبة. يتحدث "له، ومعه، وعنه"، عن ما يحدث في المخيم في لبنان، ويعيد عليه تفاصيل حياته وقصص نضالاته وخلواته في مغارة باب الشمس السحرية، داخل فلسطين، حيث كان يتسلل من لبنان، لا ليقاتل فقط، بل وليلقى حبيبته وزوجته نهيلة. ويعيد عليه قصص الغرام والحلم بالوطن، التي ملأت المغارة، عسى أن تغري الذكريات يونس بالعودة إلى الحياة. 
3) في رواية سحر خليفة "حبي الأول"، شخصية الممرضة وداد، التي تمرّض القائد عبدالقادر الحسيني (في الأربعينيات)، وتقبّل يده وهو نائم، غائبٌ عن الوعي. وتقول عنه "هو أقوى وأعظم رجل وأحلى رجل". وتختلف شخصيات الرواية، هل أحبت وداد "القائد" حب امرأة لرجل أم حب "القائد"، أم كليهما؟
4) أصيبَ في العام 2000 بشلل جلَّلَهُ من رأسه إلى أخمص قدميه. لم يعد يتحرك منه شيء سوى عينيه، وبقي سمعه. قبل أسابيع من ذلك كان قد اتصل بي، في البلاد البعيدة حيث أعد الدكتوراه، وكانت انتفاضة الأقصى تتصاعد، والأوضاع الاقتصادية تتدهور، وأوضاعه المالية متعثرة أصلا، في محل الخضار الصغير الذي افتتحه بعد أن توقفت الفنادق عن تعيينه إثر تكرر الاعتقالات. اتّصل وقد سمع أني أمر بضائقة مالية، وقال: معي ألف دولار لا أحتاجها الآن، أحوّلها لك؟ شكرته، وأكدت له أنّي أتدبر أمري. ملأتني الغبطة، وشعور بالقوة بأنّ لي سندا. ولكن الشلل جاء سريعا، ربما اختتم أمراضاً تسببت بها دورات التعذيب في معتقلات إسرائيل.
كنتُ أتحدث معه أحيانا هاتفيّا، يضعون السماعة على أذنه، يسمع ولا يتكلم. ويوم ناقشتُ الأطروحة، وخابرته أبشّره، سمعتُ ابنه يخاطبه: لماذا تبكي أليس هذا ما تُريده؟ 
رفض طويلا أن أزوره وأراه، يرفض بعينيه. وعندما خالفتُ رغبته وذهبت، ووجدته على كرسي متحرك، انتفض كمن مسّته صدمة كهربائية.
5) في رواية يحيى يخلف الجديدة "جنة ونار"، والتي أقرؤها حاليا، تجلس سماء، البنت التي عثر عليها أبواها بالتبني عام النكبة بين الأشواك، قرب بحيرة طبريا. تجلس هذه اليسارية المسترجلة بأنوثة ساحرة، وتتناوب مع السيدة سميحة (العام 1969)، على العناية بأبي حامد الذي أكد الأطباء استحالة استفاقته من غيبوبته. سميحة تقرأ القرآن وسماء تسمع موزارت وبتهوفن، وأحيانا فيروز وشادية وعبدالحليم، ويعود أبو حامد، إلى الحياة، وإن إلى حين.
6) عندما كنتُ أجلس إلى جانبه في تلك الزيارة القصيرة، أتحدث قليلا ويرد إن استطاع بعينيه؛ يشكو البعض ويمدح آخرين. كان من حوله يسألونه، إذا ما بدأ التململ، عمّا يريد؟ ويتلون عليه قائمة خيارات. وكان طلبه المتكرر، فتح التلفزيون على نشرة الأخبار ليتابع الأحداث وما تلا الانتفاضة.
7) بعض أبطال الروايات والواقع الذين ذهبوا في غيبوبة، خرجوا منها، وبعضهم، مثله، لم يفعلوا. بقيت لنا قصصهم، وصرنا نردد ما قاله محمود درويش بداية الستينيات: "وحبوب سنبلة تموت ستملأ الوادي سنابل".

ahmad.azem@alghad.jo