لم يكن ليخطر على بال معمّر القذافي، عندما واجه الزّعماء العرب ممازحاً بأن الدّور آتٍ عليهم بعد مصير صدّام حسين البائس، أنه سيكون أوّل من يواجه منهم القتل المباشر من جموع الثوّار عليه. ولقد كانت لحظةً تاريخيّةً وبشعة تلك التي مرّت بملك الملوك والقائد الملهم وهو يواجه سلاح من رفع عليهم طوال أربعين عاماً ونيف الطّغيان، ورماهم في العبوديّة وقحط المعنى، وقتّل منهم من قتّل، وفي المنفى أباح دماءهم وإنسانيتهم.
لم يخطر على باله أنّ جسده المبجّل بالعباءات والأثواب الأراجوزية سيُستباح على النّحو المروّع الذي استُبيح به في مشهدٍ ذليلٍ انهارت فيه جبال تعاظمه المزيّف، وجبروته المفرط. منظرٌ غير إنسانيّ لنهاية حاكمٍ لم يكن يوماً ليحدّق قليلاً في ضعفه البشريّ ويرى كمائن الانهيار في ذلك الشّموخ الجلف. لقد خانه ذكاؤه الشّرّير هذه المرّة مثلما خانه في تشاد ولوكربي وعشرات المواقف الأخرى، ومثلما أوقع به وهو يجأر كضبع من قصره المدمّر في العزيزية، مخاطباً شعبه الثّائر: من أنتم؟
حال العقيد الذي انطوت صفحته كما انطوت من قبل صفحات مجانين التّاريخ، هي ما سيؤول إليها حال طغاة العرب الذين أسلموا –أو سيسلمون– بلادهم إلى عنف السلاح، وفوضى القتل والتّدمير. ففي اللحظة التي يُضطرّ فيها شعبٌ لحمل السلاح في مواجهة نظامٍ أرعن ولم يحفظ الدرس، سيكون قد تخطّى مخاوفه من العواقب، ولن يرميه –في فوضى القتل- إلا بعد أن يأتي على الطاغية، ويُسيل دماءَ من حولَه.
نهاية تراجيدية تنتظر كلّ حاكم أطال تجبّره وتفرّده في القرار، وسلّم شعبه إلى اليأس والهوان، واجتاح كرامته وإنسانيّته. فالعنف لا يولّد إلا العنف. وغضب الشّعوب المقموعة أعمى، إذا تطرّف ضاع معه العقل والتدبّر، فلا حقوق إنسانٍ، ولا كرامة لعدوّ. وهذا ما حدث في مشهد القذافي الأخير.
ومن جهةٍ أخرى، سيبدو من نافل الرّأي القول بهمجيّة قتْلِه، لأنّ الثّورة الدّاخليّة، برغم مبرّراتها النّبيلة، إنما تعنفُ، إذا تسلّحت ثمّ فقدت بوصلتها الإنسانيّة، عنفاً يناسب المقلى الذي كان يُقلى فيه أصحابها، ويناسب مبلغها من التّحضّر البشريّ. فقتل المتّهم بعد القبض عليه، انتقاماً ثمّ تمثيلاً بجثّته (فكيف بالاغتصاب إن صحّ!) مزلقٌ خطيرٌ لأي ثورة، ومظهرٌ شنيعٌ من مظاهر الانحطاط والهمجيّة. ولا يمكن في حالٍ كهذه غفران الشّماتة التي تنبئ عن توغّل السّوء في النّفس البشريّة، وفقدانها إنسانيّتها. ولا يُعفى من المؤاخذة مجلسٌ انتقاليّ ولا مجلس قيادة ثورة، ولا شعبٌ بأكمله، ما دام الحدث البشع لم يحظ بأي تعليقٍ مناهضٍ، أو تعقيبٍ ذي دلالة أخلاقيّة مناهضة، أو إعلانٍ عن تحقيقٍ جاد!
لقد انجرف الثوّار إلى ما يلزمُ التّحذير منه، لا حرصاً على الطّغاة عندما يسقطون وإعطاءهم فرصةً للنّجاة، بل لمنحهم فرصة الألم العظيم، وإعادة قراءة تاريخهم الشخصيّ في ضوء ذلّهم في الأسر وتحكيم القانون، وحرصاً على نجاة الثّورة، أيّ ثورة، من الوقوع في التّهلكة والبشاعة وشريعة الغاب.
دعونا لا نفقد الأمل...
