قال لي إنّه كان قبل الثامنة صباحا في أول سيارة فوق "الشريعة" (نهر الأردن)، ورأى جُنديا صهيونيا يكاد "بنطاله" ينزلق، والبندقية تزنّره، يَفتَح قِفِل بوابة الحدود. أخّرهم الإسرائيليون دقائق، قال إنّه خالها دهراً. لكنه ّوصل قلب رام الله الساعة العاشرة والربع صباحا، متأخراً قليلا عن الموعد الذي أخبرته عنه.
أول زيارة له (أول "عودة") إلى فلسطين. في العاشرة والنصف، كنّا مع صديق ثالث في الطريق إلى "عنبتا"، لنصطحب صديقين من هناك. وهاتفنا الحافلة لتقلنا.
كانوا على وشك الوصول إلى نابلس، عندما شاهدنا الحافلة. وافقت وزميلي العائد على اقتراح الصعود إلى الحافلة، كنّا نعتقد أن عدد ركابها نحو أربعين، وفيه متسع. كنت أريد تجربة صعود حافلة مع عشرات من "عرابة"، و"سخنين"، و"عكا"، و"الجديدة"، و"طمرة"، و"الرويس"، و"حيفا"، و"الطيبة"، و"قلنسوة"، و"كفر قرع"، و"أم الفحم"، و"عارة"، و"كابول"، وآخرين من فلسطين المحتلة العام 1948. شعرنا بالحرج ونحن نجلس مكان ركاب اضطروا للوقوف، فالعدد مكتمل؛ نحو خمسين.
انتظرتنا أكثر من مركبة على بوابة قرية "صَرة". اثنتان تُقلان آخرين سينضمون لنا، وواحدة لأحد أبناء القرية لتأخذنا إلى مكان العزاء. كان أهل الشهيد حسن الترابي، الذي قضى إثر وفاته بمرض السرطان بعد أن كان أسيرا في سجون الاحتلال وأهمل الإسرائيليون علاجه، ونَعتهُ حركة "الجهاد الإسلامي"، في انتظارنا. في الواقع، كان المشهد مذهلا؛ مئات من أهل القرية يرحبون بـ"أهلنا" في الداخل. التقى الكف بالكف مئات المرات. كانوا يرحبون بعكا، وحيفا، والجليل، عبر الأهل القادمين.
سيطرت عليَّ دلالات المشهد: آتٍ من الشتات لتوه لزيارة قد لا تُتاح له ثانية، ويلتقي أهل الشهيد، وفلسطينيي 1948، وأهلا من جنوب وشمال ووسط الضفة الغربية. عدتُ إلى دروس الأحياء، وتساءلت: هل هذا هو "العصبون"؟ أم هو جديلة أعصاب جسد واحد كامل، تنعقد معاً، وتتكثف في نقطة واحدة؛ تجتمع فيها المشاعر والأحاسيس؟ في ذلك الصباح، كانت "صرة" نقطة التقاء أعصاب جسدٍ واحد؛ بل كان معنا سيدات من أوكرانيا وبولندا من زوجات أهالينا في الداخل، إحداهن على الأقل تتقن العربية.
كان هناك سؤال محرج: هل تدخل السيدات والصبايا ديوان العزاء ذاته المعد لاستقبال الرجال؟ كانت الإجابة، من "الأهالي-الأهل": نعم. وكانت هناك فتاة ستدعى للحديث أمام الجميع.
في مساء اليوم السابق، فوجئ منظمو الرحلة باتصال هاتفي من صديقتهم "إيليان"، تخبرهم أنّ أختها "روان" كانت الممرضة الشخصية للشهيد البطل في مستشفى العفولة، وأنهما ترغبان في الانضمام للرحلة لتقديم واجب العزاء؛ فروان الممرضة ترغب بالتعرف على روان أخت الشهيد التي حدّثها عنها. حينها نزلت دمعة من عينين في سخنين. وعِندما رأى والد الشهيد روان بينهم، لم يتمالك نفسه، ودمعت عيناه. أُلقيت كلمات؛ واحدة ألقاها أسير محرر من الداخل، ختمها بالقول: "عاشت فلسطين حرة واحدة"، وعزّتهم روان.
لاحقاً، توجهت الصبايا في الوفد إلى بيت الشهيد. استقبلتهن أم الشهيد وسيدات القرية، وروان أخت الشهيد. لم نحضر تلك اللحظات، لكنهن لم يتوقفن عن الحديث عن هذا الموقف المؤثر، ورأينا صور الابتسامات والدموع.
لم يعِ أحد كيف مرت ساعة ونصف الساعة في اللقاء. وبينما كنا نصعد الحافلة، أخبرنا أهل القرية عن معنى "صرة"، وأنّها مرتبطة بالبرد: "الصرصر". وحدثونا عن الجيب الصهيوني الذي كان يخترق البلدة بشكل مستمر للوصول إلى النقاط الاستيطانية، حتى تصدى له شباب وأحرقوه. وسألناهم عن تاريخ معاناتهم مع الحواجز.
بعد "صرة"، كانت رحلة المجموعة إلى سبسطية. سبسطية قطعة من الأساطير، جمالها وقصتها يخبراننا لماذا يضحي الشهداء والأسرى لأجل فلسطين. دخلنا سجن النبي يحيى، ورأينا قبره، ومكان زيارة المسيح عليه السلام له، والمدرجات الرومانية، وملعب كرة قدم للأطفال تحيطه الأعمدة الأثرية.
تحتاج سبسطية إلى فصلٍ كامل من الحديث والتوثيق. ولكنْ بالتأكيد هو دفء الوحدة في صرة، وجمال سبسطية، اللذان صاغا خاتمة رحلتهم على حاجز "جبارة"، أثناء العودة إلى الداخل. حينما أوقفت مجندة روسية ومجند إثيوبي، اثنين من المجموعة، لمدة تزيد على الساعتين ونصف الساعة، فنزل الجميع من الحافلة، يدبكون ويرقصون ويغنون الأغاني الفلسطينية: "ومن حاجز جبارة أعلناها هدّارة"... أعلنوا "لن ننكسر".