غزة ومعركة قواعد التفاوض

ما يحدث في مفاوضات القاهرة بين الفلسطينيين -الموحدين لأول مرة منذ سنوات طويلة، في فريق سياسي واحد يخدم الجهد المقاوم الفلسطيني ويعبّر عنه- وبين الفريق الإسرائيلي، بوساطة مصرية، ما يزال حتى الآن هو الجدل بشأن قواعد التفاوض؛ فلم تبدأ المفاوضات حقاً. وبعد أن وجد الإسرائيليون أنّ المقاومة بقيادة "حماس" و"الجهاد الإسلامي" فرضت قواعد اشتباك جديدة على أرض المعركة، فإنهم يجاهدون الآن حتى لا يصل الأمر إلى منصّة التفاوض، ويحدث تغيير لقواعد العمليات السياسية والتفاوضية. اضافة اعلان
التفاوض هو نقل أوراق القوة ومحصلة الاشتباك في الميدان إلى الطاولة، وأي فريق يتنازل عن نقل أوراق قوته الميدانية إلى طاولة المفاوضات، فإنّه ببساطة يقدم تنازلات مجانية، ويبدأ طريق الفشل، وإضاعة تضحيات فريقه وشعبه وجنده.
ما ذهبت إليه المبادرة المصرية التي قبلها الإسرائيليون فور صدورها عقب بدء الاشتباك (يوم 14 تموز (يوليو) الماضي)، يخدم، ربما من دون قصد، الاستراتيجية التفاوضية الإسرائيلية، ويقع -في سبيل وقف النار الفوري، وتقليص ضحايا الجانب الفلسطيني- في الخطأ التفاوضي الذي وقع فيه الفلسطينيون مراراً وتكراراً؛ بالاعتماد على الدبلوماسية والتفاوض المنفصل عن الميدان. ما كان يريده الإسرائيليون هو الوصول لوقف إطلاق النار، ثم المناورة براحة للتملص من دفع أي ثمن سياسي، ومن الإقرار بأي من مطالب الفلسطينيين. وهذا ما رفضه الفلسطينيون، وتحديداً قيادات المقاومة، وأرادوا أن يفاوضوا ويجعلوا الإسرائيليين يتفاوضون "تحت النيران"، رغم التباين الهائل في موازين القوة المادية.
بعد الاستياء المصري الأولي، وبعد استغراب واستياء قيادة منظمة التحرير الفلسطينية الأوليين من رفض المبادرة؛ بما يعنيه ذلك أولا، ممّا قد يبدو، تحدياً لمصر، في وقت  تحتاج فيه "حماس" إلى ترميم علاقتها مع القاهرة، وبما قد يعنيه، ثانيا، من حمام دم مستمر في غزة، عادت القيادة الفلسطينية الرسمية لقبول منطق وطلبات المقاومة، وتحقق تواصلٌ أدى إلى آليّة الوفد الموحّد الذي يقدم بالدرجة الأولى حلا لمعضلة الرفض المصري التعامل المباشر مع قيادة "حماس"، فتذهب "حماس" ضمن وفد فلسطيني رسمي. وبهذا، فإنّ المقاومة حققت مكسباً على صعيد الجبهة الداخلية الفلسطينية والعربية، بإقناع القوى العربية (مصر) والفلسطينية الرسمية بمنطق مطالبها السياسية، وضمناً بمنطق التفاوض أثناء إطلاق النار وليس بعده.
من علامات النضج الواضحة في أداء "حماس" في هذه الحرب أنّها لم تحاول (على الأقل في الوقت الراهن) استخدام الحرب لتسجيل نقاط لصالحها في إطار الصراع والتنافس الداخلي مع حركة "فتح"، بالهجوم على القيادة الفلسطينية الرسمية كما كان يحدث سابقاً، بل قام قياديو صف أول في "حماس" بإطلاق تصريحات إيجابية بشأن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وتم الاتصال معه. ونجح هذا في تحقيق تقارب المواقف وتنسيقها. واستجابت مصر للموقف الفلسطيني الموحد، وتحولت من دور الوساطة عن بعد، ودور الوسيط الذي يقدم وصفته، ويخيّر الأطراف بين قبولها كلها أو رفضها كلها (Take it or Leave it)، إلى وسيط بالمعنى التقليدي الذي يتنقل بين الطرفين وينقل مطالبهما.
الآن يُجاهد الإسرائيليون لعدم القبول بفكرة المفاوضات تحت النيران، لأنّه في هذه الحالة لا يكون الوقت لصالحهم، وهم يريدون العودة للتفاوض المسترخي الذي يسمح لهم بفرض حقائق أمر واقع على الأرض، واستخدام أدوات الخنق والحصار والقسر، التي لا تترك للمفاوض الفلسطيني إلا قبول ما يعطى له، أو الرفض العدمي، من دون بديل أو آلية للحصول على مطالبه.
سيكون لمدى قدرة المقاومة على مواصلة القتال، وتقديم مفاجآت ميدانية جديدة، دور كبير في إكراه الإسرائيليين على التفاوض وفق القواعد الجديدة (تحت الضغط)؛ فإذا تراجعت هذه القدرات، تقلصت فرص إجبار الإسرائيليين على النهج التفاوضي الجديد. وسيكون للنجاح في فرض هذا النهج الجديد، ومن ثم الحصول على نتائج ايجابية في التفاوض بشأن مستقبل قطاع غزة، دور كبير في تحديد مسارات العمل السياسي مستقبلاً، خصوصاً إذا تكرس دخول "حماس" و"الجهاد" في إطار مؤسسات العمل الفلسطيني الرسمية؛ إذ يمكن أن يتبلور اتجاه بشأن كيفية مفاوضة الإسرائيليين حول مستقبل الاحتلال في الضفة الغربية، وفق قواعد جديدة، أهمها تزامن المفاوضات مع المقاومة، والتي لن تكون بالضرورة مسلّحة.