فلسطين زمن الربيع.. "الغنوشي نموذجا!"

سارعت فئات نهاية العام الماضي، إلى تسليط الضوء على تصريح للقيادي الإسلامي في حزب النهضة التونسي، راشد الغنوشي، بأن "لا عداء للصهيونية في الدستور التونسي الجديد". وهو تصريح جاء بعد أسئلة من وسائل إعلام أميركية، أثناء جولة للغنوشي في الولايات المتحدة. وهدف كثير من الانتقادات حينها إلى التشكيك في موقف الثورة التونسية، والثورات العربية ككل. ولا يمكن بطبيعة الحال أخذ هكذا انتقادات على محمل الجد، لأنّ الدساتير لا تتضمن نصاً بالعداء لدولة ما، وهذا هو المقصد الحقيقي لتصريح الغنوشي.‬اضافة اعلان
والواقع أن موقف الغنوشي من الموضوع الفلسطيني مؤشر مهم على مواقف الإسلاميين في هذه المرحلة من فلسطين. ويمكن تلمس هذا الموقف من سلسلة تصريحات وخطوات.‬
 استقبل حزب النهضة، مطلع العام الحالي، رئيس حكومة حركة "حماس" في قطاع غزة، ولم يكن مشهد إسماعيل هنية أو أي حمساوي غيره يلقي خطبا في الجماهير التونسية، متخيلا في الماضي. وفي شباط الماضي، صرح الغنوشي لصحيفة السفير اللبنانية بأن تونس "لن تعترف أبداً" بإسرائيل. وقال إنه لا يوجد خلاف بين الحركات الإسلامية على أن فلسطين هي القضية المركزية. وأضاف "لن نعترف أبداً بالاحتلال ولا بالكيان. ولا داعي للغرابة، ففلسطين موضع إجماع كل الإسلاميين والقوميين". وفي الشهر نفسه، قال وزير الخارجية التونسي الجديد رفيق عبدالسلام (صهر الغنوشي) إن تونس "لن تعترف بإسرائيل. وبالأمس كنت مع وزير الخارجية الألماني غيدو فيسترفيله واتفقنا على 90 % من القضايا، واختلفنا على إسرائيل".
مقابل هذه التصريحات، تجدر العودة إلى جولة الغنوشي سالفة الذكر إلى الولايات المتحدة. فقد وقع حينها خلاف مع معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي نقل عن الغنوشي قوله عندما زاره إنّ "بعض الثورات (في العالم العربي) نجحت وبعضها في الطريق. اليوم توشك الجمهوريات أن تنتهي، وسيكون العام المقبل دور الملكيّات". مثل هذه التصريحات تؤذي علاقات الغنوشي مع الدول الملكية، وخصوصا في منطقة الخليج العربية. ولذلك أنكرها في حديث لصحيفة الشرق الأوسط، السعودية، واتهم "جهات صهيونية" في مركز واشنطن بتلفيقها بهدف "الإساءة إلى علاقاتنا الدولية".  وانتقد الصحفيين الذين نقلوها، وقال إنّه كان عليهم "أن يتثبتوا فيما ينشرون، وألا ينقلوا عن جهات صهيونية معروفة بتحيزها" (في إشارة ‬الى مركز واشنطن).
ومما تعكسه هذه القصة، أنّ الغنوشي وحزبه لا يمانعان التواصل مع جهات قريبة من إسرائيل وصهيونية إذا خدم ذلك قضيتهم الوطنية والسياسية. وبدا موقف إسلاميي تونس والغنوشي أكثر جلاءً في حديثه في مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، في ذات الجولة. حيث قال: "بالنسبة للقضية الفلسطينية، فإنّها تخص الفلسطينيين بالدرجة الأولى، وتخص الذين يمثلون الشعب الفلسطيني، سواء كانوا السلطة الفلسطينية أو أي طرف آخر. وإذا وصل الشعب الفلسطيني إلى اتفاق مع الإسرائيليين، فإنّ هذه القضية لن تكون موضوعا رئيسيا في البلدان المسلمة الأخرى".
‬لهذه المواقف شقان: أولهما، تأكيد فكرة "الدولة-الأمة"، أي أن تونس (وأي دولة عربية أخرى) باعتبارها دولة مستقلة لن تكون صاحبة القرار في الشأن الفلسطيني، ولن تصل درجة إعادة تعريف قضية فلسطين، لتكون أممية، ولكن ثانياً، هناك تضامن خاص مع الشعب الفلسطيني.
من حيث المبدأ والنظرية، لا يوجد فرق كبير بين طرح الأنظمة الجديدة، بقيادة الإسلاميين، والأنظمة القديمة من فلسطين؛ فالأجندة الوطنية القطرية هي الحكم، ولكن المهم أيضا تذكر أن الأنظمة السابقة ربما كانت تعبر عن مصالحها أكثر مما تعبر عن شعوبها.
ستبدي الأيام كم يمكن للأنظمة الجديدة أن تقدم دعماً أفضل، ماديا وسياسيا، خصوصا إذا وقفت هذه الدول على قدميها، وأصبحت أكثر فاعلية وقوة واستقلالا. ويمكن لسياسة أكثر فاعلية لهذه الأنظمة أن تخدم القضية الفلسطينية كثيرا، حتى مع استمرار الواقع القطري. وإذا كان التعاطف الشعبي العربي مع فلسطين أمرا لا جدال فيه، فإنّ أي نظام ديمقراطي سيترجم التعاطف إلى مواقف أقوى، أما إذا بقي الدعم السياسي والمادي هزيلا كما كان، فسيكون هذا غريبا، ومؤشرا على محدودية أثر الثورات العربية.