ما أسوأ اليأس!

هل هناك علاقة بين الإصلاح السياسي والإحساس القويّ بالفردية والتصالح مع الأنا وإدراكها؟ وهل قول العديد من كتّابنا بأنّ الأردنيين أصابهم اليأس من الإصلاح السياسي ومحاربة الفساد لا ينطوي على مخاطر على الأمن الاجتماعي؟اضافة اعلان
المثل الأميركي القديم يقول: إذا أردتَ أن تخدع شخصا ما فعليك أولا أن تَحْمله على الثقة بك، أو على الأقل تُشعره بالتفوّق عليك (هاتان فكرتان مرتبطتان)، فتحمله بذلك على تخفيض دفاعاته. وهذا المثل، برأي عالم النفس ويلسون برايان، يفسّر الكثير عن الإعلانات المتلفزة. فإذا افترضنا أن الناس ليسوا أغبياء، فلا بدّ أنّهم سيتفاعلون مع الإعلانات المتلفزة بشعور من التفوّق، والذي سيخوّلهم الاعتقاد بأنهم ممسكون بزمام السيطرة. وما دام هذا الشعور بالقدرة على الاختيار موجودا، فلن يكون لديهم شيء ليخافوه من الإعلانات على المستوى الواعي. ذلك يعني، في المحصلة، أنك لن تستمتع بالأكل والشرب واللباس، ولن تتذوق متعة الاستهلاك بطولها وعرضها بدون القدرة على الاختيار والإحساس القوي بالفردية. فالحياة تنطوي على البؤس والشقاء مثلما تنطوي على احتمالات الفرح والرضا وألوان البهجة. والذين يعترضون على حياتهم بالانتحار أو النحر، كما يقول حازم صاغية، ينطون في الغالب على ضعف في الفردية، حيث الردّ على العيش السيئ والكريه في ظلّ فردية قوية لن يتخذ شكل الانتحار أو النحر. وبالمعنى نفسه، فإن فردية ضعيفة قد تعجز عن الإفادة من حياة مريحة. ونقص الفردية معطوفاً على إخفاقات التحديث والتمدين قد ينتج فردا مفككا (لماذا نتحدث دائما عن تفكك المجتمعات والجماعات فقط؟!). والفرد المفكك هو صاحب فردية مشوّهة بدون مدى اجتماعي، يضيف صاغية، وهذا التفكك الفردي، حسب دوركايم، المتسبب الأول في نسب الانتحار المتصاعدة في العالم.
إنّ الشرارة التي أطلقها البوعزيزي في تونس هي: "ما أسوأ اليأس!".. إنها الشعور بأنّ الحياة هزيلة وبلا قيمة، وأن الأفق مسدود، وأنك لا تحبّ ذاتك وواقعك. وهذا "الجحيم" يدفع إلى استرخاص حياتك وحياة الآخرين أحيانا. و"الربيع العربي" جاء ردا على معادلة "سلطة قوية ومجتمع ضعيف = فردية مهمّشة"، باتجاه محاولة إرساء معادلة جديدة هي: "الدولة القوية تُستمد من المجتمع القويّ الذي يقوم على أفراد يعيشون بحرية وكرامة ويحققون ذواتهم" تحت سقف القانون العادل والمواطنة المتساوية.
ربما يصعب أن يكون طائفيا أو جهويا من لديه إحساس قوي بفرديته. والذين تتراجع فرديتهم وقدرتهم على الاختيار والعيش كما يرغبون ويشتهون، يجدون في الأيديولوجيات الجماعية معنى لحياتهم، حين يذوب الواحد في مجموع أكبر.
والتديّن الواعي هو بالأساس تجربة روحية شخصية، ومن غير هذا الإحساس تتحوّل العبادات إلى حركات وطقوس ليس بمقدورها أبدا أن تسمو بالروح أو تهذّب النفس وتجعلنا مواطنين صالحين. والفصل بين العلاقة الوثيقة بين التدين الواعي والأخلاق أساسه عدم الإحساس الفردي بالممارسة. إنّ قصارى ما تهجس به هذه المقالة هو أنّ تراجع قبضة السلطة يقتضي صعودا في الحرية الفردية. واليأس والارتياب والشك.. مشاعر من مصادرها عدم الإحساس بالأمان والثقة بالواقع والمستقبل. والحقيقة التي ينبغي التركيز عليها أن ثورات "الربيع العربي" تعكس، في الحقيقة، واقع مجتمعاتنا وتعكس تناقضاتنا وإشكالاتنا الثقافية والاجتماعية ومستوى تحضرنا وتقدمنا، أي إنها لن تقلب واقعنا بضربة واحدة. فالتقدم عملية تاريخية طويلة ومتوالية فيها الكثير من الصعوبات والتعرجات، لكنّ هذه الثورات، برغم آلامها وتضحياتها، مدخل لا بدّ منه لخلق شعوب حرة وأفراد أحرار ودول لكامل مواطنيها. وهؤلاء المواطنون الأحرار حين "يكون لديهم أمل" هم من سينتجون، عبر تجربة مديدة، نسختهم من الحداثة والديمقراطية الخاصة بهم وبواقعهم.

[email protected]