متاحف للطّغاة

يجب أن لا تمرّ الثّورات العربيّة أو انتفاضاتها من دون أن تعي أنّ على أصحابها صيانة المتعلّقات الشّخصيّة للطّاغية المخلوع أو المقتول، لا تدميرها، وحفظها دليلاً على إجرامه، من جهة، ومن جهةٍ ثانية من أجل إقامة مُتحفٍ يذكّر الأجيال بما يكون عليه الطّاغية، وبسيرة حياته في فساد الذّوق والطّغيان. فالطّغاة جميعاً يشتركون في فنون القمع وكبت الحريّات، وسواد القلب وجنون الارتياب والعظمة والغرور، والسّفَه في الإنفاق (على أمور الحرب والتّسلّح، والمشاريع الطّوباويّة المُكلفة وعديمة الجدوى للشعب وللبلد، وتعميم أيديولوجيا التّعظيم، والصّور الشّخصيّة والتماثيل الضّخمة التي تعكس الأنا المتضخّمة وعبادة الذّات) وجرّ الخراب إلى بلدهم إن لم يكن إلى العالم أيضاً. بينما أنّ معظمهم يشترك (مع استثناءات هنا وهناك) في نَزعةٍ غريبةٍ هي فساد الذّوق الشّخصيّ الذي يعمّمُه على حضارة بلده، والذي مبعثُه تدنّي مستوى ثقافة الطّاغية عموماً، وخصوصاً في أمور المعرفة الفكريّة والجماليّة والفنّيّة والأدبيّة، و/أو تملّك الأيديولوجيا (التي ما دخلت حقلاً للمعرفة أو الفنون إلا أفسدته) من رأسه. والأمثلة أمامنا أكثر من أن تُحصى؛ مثال ستالين السّاطع في طموحه الكونيّ للسّيطرة، وفي شخصيّته المركّبة من أشكال الخلل النّفسيّ. ومثال هتلر الذي لا يحتاج إلى شرحٍ وتفسير. ومثالٌ قريبُ عهدٍ هو صدّام حسين الذي أنبأت قصوره عن المستوى (الرّفيع) للذّوق الشّخصيّ ولهدر الأموال، والذي ملأت صوره وتماثيله العراق، من دون أن تتخلّى عن عنصر الرداءة في الإنتاج والإخراج، وآخر الأمثلة لديّ القذّافي الذي كان لدينا بعض الأدلّة على فساد ذوقه، وكلّ الأدلّة على طغيانه، قبل أن ينكشف لنا بيته الخاصّ من مقتنياتٍ (والبقيّة منها ستتبع). فالأزياء التي لبسها ستؤرّخ لشخصيّتِه وما طرأ عليها من شذوذ متلاحق، ابتداءً من الفتى الوسيم الصّورة باللّباسِ الأبيض، وانتهاءً بعمليّات التّجميل الخائبة والزّيّ الغرائبيّ الذي اعتمده، بعد أن نقل نقلته الشّهيرة في انتمائه إلى أفريقيا وملك ملوكها، وغسل يديه الاثنتين من العربِ والعروبة! واختار الخيمة مقرّاً (للاستهلاك الإعلاميّ طبعاً) لاستقبال ضيوفه، في إشارةٍ واضحةٍ إلى احتقارهم جميعاً، ومنح شعوب الكرة الأرضيّة مزيداً من المناسبات لشتمه وللدّوران في تحليله والتندّر عليه كظاهرةٍ غريبةٍ (ومع ذلك لا تكفّ عن خطبةِ وُدّه)، متحدّياً قانون الاجتماع البشريّ والطّبيعة السّويّة. وما "الكتاب الأخضر" سوى نزهة قصيرة في رأس هذا المأفون الذي تجرّأ على كلّ قيمةٍ إنسانيّةٍ وانتهكها، متبرّعاً للإنسانيّة باختراع ما لا لشعبٍ كاملٍ من (العباقرة) أن يفعل. وآخرها أنّه لا يحكم، وأنّ الشّعبَ بلجانه الشّعبيّة هو الذي يحكم، وأنّه ليس سوى قائد ثورة (بينما ليس سوى قائد انقلابٍ تعيس قلب ليبيا على عقبيها مئات السنين)!اضافة اعلان
فـ(أبو) (التوك توك) والمعطف المُمزّق تحتَ الإبطين، و(أبو) من أنتم؟؟، و(أبو) الجرذان والصّراصير، و(أبو) زنقة زنقة دار دار، و(أبو) العباءة عليها الشيفون وهو يستقبل بلير أو ملوك ورؤساء أفريقيا، وأبو الشّباب الفاسد المدلّع العربيد ونزواته عابرة القارات، وأبو البنت (ذات طاولة البلياردو في حمامها) التي بات اسمها اسماً لكلّ حارسةٍ من حارساته، و(أبو) الحارسات المدجّجات (كحُجّة قويّة على تقدّميّته!!!)، والنِّسونجي المُقرفُ عاشق كوندليزا رايس (أبو) الكثير الكثير من الترّهات والمصائب، وليس آخرها أنّه نصّبَ نفسه مفكّراً وأديباً كبيراً، وديمقراطيّاً يُفسّرُ المعنى!
هذا الطَّاغية يجب أن يحظى بأكبر متحفٍ لطاغيةٍ على الإطلاق (ليتناسب وحجم الخلل الذي فيه)، وليضمّ ملابسه بالتّسلسل التّاريخيّ، مع أسماء المصمّمين فاسدي الذّوق حتى لو كانوا طلياناً. كما يجب أن يضمّ كتبه مع الدّراسات المنافقة جميعها، مع خطبه وكلماته في مؤتمرات القمّة وغيرها بما فيها محاضرته عن الإسلام في حسناوات روما (!) وصوره وتماثيله، مع مقارنات مع غيره من الطّغاة وما يجمعهم من همّة مريضةٍ لتدمير العالم والتّفكير الإنسانيّ والذّوق عموماً. مع دروسٍ في الجمال والصّحّة النّفسيّة والثّقافيّة والسّياسيّة وأسباب الانحطاط.دعوني لا أفقد الأمل...